BY: Joseph S. Nye, JR. – project-syndicate
الشرق اليوم- كان تعيين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لجون راتكليف، وهو عضو شديد الحزبية في الكونغرس، ولديه خبرة دولية قليلة، مديراً للمخابرات الوطنية مكان دان كوتس، ناقوس خطر عن تسييس الاستخبارات. وأجبرت معارضة الديمقراطيين، والجمهوريين على حد سواء لراتكليف، ترامب على سحب التعيين، ولكن يبقى السؤال المطروح هو: هل ستُفسِد السلطة الحقيقة؟ إن الرؤساء يحتاجون إلى مدير مخابرات يمكنهم الوثوق به، لكن هل يمكن لبقية الحكومة أن تثق في ذلك المدير ليواجه ذوي السلطة بالحقائق، كما فعل كوتس، عندما عارض الرئيس في قضايا مثل روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية؟
إن إخفاقات الاستخبارات الباهظة التكلفة، لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط. إذ فشلت فرنسا في توقع هجوم ألمانيا عبر آردن في عام 1940؛ وتعرض ستالين لهجوم مباغت من هتلر عام 1941؛ وفوجئت إسرائيل بحرب يوم الغفران عام 1973.
وغالبًا ما يبرر ترامب، الغاضب من أجهزة الاستخبارات الأمريكية؛ بسبب إثارة الانتباه إلى مدى التدخل الروسي في انتخاباته لعام 2016، رفضه لما تقوم به عن طريق الإشارة إلى تقييمها غير الدقيق بشأن كون العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. واتهم العديد من الأنصار الرئيس جورج دبليو بوش بالكذب، والضغط على دوائر الاستخبارات، حتى تنتج معلومات استخبارية لتبرير الحرب التي اختارها بوش بالفعل. ولكن الوضع كان معقدًا، ولكي نفهم مشكلات قول الحقيقة لذوي السلطة، يجب أن نتخلص من الخرافات.
وكما وصف مفتش الأسلحة الأمريكي، ديفيد كاي، تقديرات أسلحة الدمار الشامل في العراق، “لقد كان جميعنا تقريبا مخطئين”. وحتى كبير مفتشي الأمم المتحدة، الدبلوماسي السويدي، هانز بليكس، قال إنه اعتقد أن العراق “احتفظ بالمواد المحظورة”. ولم تكن المعارضة الفرنسية، والألمانية لحرب العراق قائمة على تقييمات استخبارية مختلفة فيما يتعلق بالأسلحة. ولكن التجربة الأمريكية والبريطانية جمعت بين الإخفاقات على ثلاثة مستويات: التجميع، والتحليل، والعرض العام.
وكان العراق هدفًا صعبًا لجمع المعلومات الاستخباراتية. إذ كان صدام حسين يزرع الخوف عن طريق قتل أولئك الذين تحدثوا، بما في ذلك صهره، عندما كشف في عام 1995 أن صدام كان لديه برنامج أسلحة بيولوجية. وبالكاد كان لدى الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة عددا قليلا من الجواسيس الذين يمكن الاعتماد عليهم في العراق، وأحيانًا كانوا يقومون بالإبلاغ بشكل غير مباشر، فقط عن الأشياء التي سمعوها ولم يروها. وبعد طرد مفتشي الأمم المتحدة في عام 1998، لم تعد الولايات المتحدة تستفيد من ذكائهم البشري المحايد، وكثيراً ما كانت تملأ الفراغ بشهادة ملوثة من المنفيين العراقيين، الذين كانت لديهم أجندتهم الخاصة. ولم يستطع أي من البلدين الوصول إلى دائرة صدام الداخلية، إذا لم يكن لديهما دليل مباشر على اللغز الأكبر: إذا لم يكن لدى صدام أسلحة، فلماذا استمر في التصرف كما لو كان يملكها؟
لقد كان التحليل ضعيفًا أيضًا. إذ كان المحللون صادقين، لكنهم كانوا يفتقرون إلى الأدلة حول تفكير صدام، وكانوا يميلون إلى الخضوع “التصوير المرئي”: إذ افترضوا أن صدام سيرد بالطريقة التي كنا سنرد بها -أو كان سيرد بها أي قائد يستخدم المنطق-. وبدلاً من ذلك، شعر صدام أن قوته في الداخل، وفي المنطقة تعتمد على الحفاظ على سمعته بحيازة أسلحة الدمار الشامل. وتكمن مشكلة أخرى في ميل المحللين إلى التعويض المبالغ فيه عن خطئهم السابق المعاكس.
وبعد حرب الخليج الأولى، اكتشف مفتشو الأمم المتحدة أن صدام كان أقرب من تطوير سلاح نووي مما كان يعتقده المحللون. ولتعهدهم بعدم التقليل من شأن صدام مرة أخرى، بالغ المحللون في تقدير الاتجاه الذي عززته صدمة 11 سبتمبر. وعمليا، يجب تحدي هذه الأطر الفكرية المهيمنة، أو “التفكير الجماعي” من قبل مجموعة متنوعة من الأجهزة التحليلية، مثل تعيين حماة الشيطان، وخلق “فرق حمراء”، لإثبات وجود تفسيرات بديلة، أو مطالبة المحللين بطرح سؤال عن التغيير الذي من شأنه أن يكذب افتراضاتهم. وبحسب جميع المقاييس، نادرا ما حدث هذا.
إذا، ما هو الدور الذي اضطلعت به السياسة؟ إن إدارة بوش لم تأمر مسؤولي الاستخبارات بالكذب، ولم يفعلوا ذلك. ولكن الضغوط السياسية يمكن أن تشوه الانتباه بذكاء، حتى لو لم تفسد المخابرات بشكل مباشر. وكما أوضح لي أحد المحاربين القدامى الحكماء: “كان لدينا كومة كبيرة من الأدلة تثبت أن صدام كان لديه أسلحة دمار شامل، وكومة أصغر تدل على عكس ذلك. وكانت كل الحوافز هي التركيز على الكومة الكبيرة، ولم نستثمر وقتًا كافيًا على الكومة الأصغر”.
إن عرض المعلومات الاستخبارية للقادة السياسيين (وبواسطتهم) كان به خلل أيضا. وكان هناك القليل من التحذير من أن “أسلحة الدمار الشامل” كان مصطلحًا مربِكًا في الطريقة التي جمع بها بين الأسلحة النووية، والبيولوجية، والكيميائية، والتي لها في الواقع خصائص ونتائج مختلفة للغاية. وقد أشار تقدير الاستخبارات القومية لعام 2002، إلى شراء صدام لأنابيب الألمنيوم على أنه دليل يثبت انه كان يعيد تشكيل برنامجه النووي، لكن محللي وزارة الطاقة، الذين يتمتعون بالخبرة، لم يوافقوا على ذلك. ولسوء الحظ، هُمشت معارضتهم في حاشية ألغيت (إلى جانب التحذيرات والمؤهلات الأخرى)، عندما أُعِّد الملخص التنفيذي للكونغرس، ونسخة عامة رفعت عنها السرية. وكانت الحرارة السياسية تذيب الفروق الدقيقة. كما أنه كان ينبغي مناقشة المعارضة علنا في النص.
ولا يمكن إلقاء اللوم على الزعماء السياسيين بسبب الإخفاقات التحليلية للمخابرات، ولكن يمكن مساءلتهم عندما يتجاوزون الاستخبارات، ويبالغون أمام الجمهور بما تقوله. وقد قال نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني أنه “لا شك” في أن صدام يمتلك أسلحة دمار شامل، وقد صرح بوش بصراحة بأن الأدلة تشير إلى أن العراق يعيد بناء برامجه النووية. وتجاهلت مثل هذه التصريحات الشكوك والتحذيرات التي عُبِّر عنها في الهيئات الرئيسية لتقارير المخابرات.
إن الثقة في الاستخبارات تعمل في دورات في ديمقراطياتنا. وخلال الحرب الباردة، كان يُنظر إلى مسؤولي الاستخبارات في كثير من الأحيان على أنهم أبطال. وبعد حرب الفيتنام، أصبحوا أشرارا. وأعاد ما وقع في 11 سبتمبر اعتراف الجمهور بأن الاستخبارات الجيدة هي أكثر أهمية من أي وقت مضى، ولكن الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق جدد الشكوك مرة أخرى، وقد استخدمها ترامب لإخفاء مشكلة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية.
إن الدروس واضحة لـمدير الاستخبارات القومية الأمريكية المقبل. وبالإضافة إلى المهام البيروقراطية المتمثلة في تنسيق الميزانيات والوكالات، سيتعين عليه (أو عليها) مراقبة البراعة في جمع المعلومات الاستخباراتية، والدفاع عن الاستخدام الصارم للتقنيات البديلة لتحليلها، وضمان تقديمها بشكل دقيق للزعماء السياسيين وللجمهور. والأهم من كل هذا، فإن من واجب مدير الاستخبارات القومية الأمريكية مواجهة أصحاب السلطة بالحقيقة.