بقلم: سامح راشد – العربي الجديد
الشرق اليوم- تصاعدت في الأيام الماضية وتيرة الحديث عن “صفقة القرن”، أو الحل المحتمل للقضية الفلسطينية. وبينما تصاعدت وتيرة التحذير الفلسطيني والعربي منها، وبدأت دعوات إلى الوحدة والتكاتف فلسطينياً وعربياً لمواجهتها، غلبت لهجة التهدئة على تصريحات الجانبين؛ الأميركي والإسرائيلي، في محاولة لطمأنة الأطراف العربية، وتهدئة المخاوف إزاء التنازلات المتصورة التي سبق تسريبها خلال الأشهر الماضية.
ظاهرياً، كان ذلك تراجعاً حقيقياً عن بعض جوانب صيغة الحلّ المعروفة بالصفقة، وهو في الواقع ارتداد إلى الملامح الأصلية للحل. وكل ما سبق تسريبه ليس إلا جزءاً من خطة مدروسة لتهيئة المجتمع العربي، وتمهيد طويل نفسي وإعلامي.. مثل ما يحدث في الحروب من “تمهيد نيراني” قوي لإخماد الدفاعات المضادة، وتحضيراً للتحركات الميدانية التي قد تبدأ بالفعل في أثناء التمهيد، بغطاء منه.
جرى إطلاق تسريبات على مراحل، بالتوازي مع نفي وإنكار عربيين. ثم أُطلقت تسريبات أخرى تطرح تعديلاتٍ على السابقة، لكي يتركز النقاش والإعتراض على التفاصيل، وأي السيناريوهات أخطر وأيها أقل خطورة، لا على مخالفة ما سبق الإتفاق عليه طوال العقود السابقة. فالمطلوب هو ألا يتحدث أحد عن حق العودة أو حل الدولتين أو التمسّك بالقدس، كقضايا لا تقبل النقاش أو المساومة، وإنما حول قبول أو رفض ما يطرحه الطرف الآخر من حلول وترضيات بديلة لعودة اللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم، وما إذا كانت تلك الترضيات مقبولةً، أو مرفوضة، وإلى أي حد يمكن تعديلها.
معلوم أن القضايا الجوهرية مثل القدس واللاجئين والحدود، لم تكن يوماً على أجندة التفاوض بجدّية في أي مرحلة منذ مدريد، بحجة أنها قضايا شائكة وصعبة، واتفق على تأجيلها إلى ما سميت وقتئذ مرحلة الحل النهائي. ولم تلتزم إسرائيل، ولا الولايات المتحدة بأي شيء في هذه الملفات، ولم يطالبهما أي طرف عربي في أي مرحلة بإعلان ولو مبدئياً، بأن ثمة حقوقاً فلسطينية أساسية في تلك القضايا. وعلى العرب وكذلك الفلسطينيون، ألا يندهشوا إذا أنكرت إسرائيل اليوم أي حق فلسطيني أو عربي، وأنها لن تسمح بأي مفاوضاتٍ أو مساوماتٍ في أي من تلك القضايا.
لذا، نقلت واشنطن السفارة الأميركية إلى القدس، وأوقفت التعامل مع منظمة التحرير، واعترفت بضم إسرائيل الجولان، وأوقفت مساعداتها المالية إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بل تسعى إلى إغلاقها نهائياً. وأعلنت تل أبيب الشروع في توسيع نطاق السيادة الإسرائيلية، لتشمل مستوطناتٍ كبيرة في الضفة الغربية. هكذا بدأت بالفعل تصفية القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ككل بالتدريج، وبإجراءات عملية، من دون إعلان مسبق بأن هذه الإجراءات هي الحزمة المتكاملة أو الصيغة الشاملة التي تسمى “صفقة القرن”. ولأن الصراع ليس ثنائياً فقط، ونطاقه أوسع وأعمق من المسار الفلسطيني، فإن عملية تصفية الصراع يجب أن تشمل أطرافاً أخرى، لاعتبارات محض براغماتية، تشمل متطلبات راهنة، مثل التمدّد الديمغرافي والتماسّ الحدودي، وسيناريوهات مستقبلية كتعاون اقتصادي وعلاقات ومصالح متنوعة وشاملة مع دول عربية.
يظنّ أصحاب الصفقة وعرّابوها، أن التدرج والتنفيذ غير المعلن لعملية التصفية تلك، سيعفي حكومات وقيادات عربية من المسؤولية أمام الشعوب والتاريخ، وخصوصاً أن الإضطراب الذي يسود المنطقة، ربما دفع إلى إعادة ترتيب مراحل الصفقة، بشكل يتم إعلان ما يجري بالفعل من إجراءات تطبيع، ولا سيما في التعاملات التجارية والأستثمارات المتبادلة، على أن يتبعها الكشف عن خطواتٍ أخرى في مجالاتٍ كالسياحة والطيران والرياضة والبحث العلمي. وعندئذ، لن يكون من العسير، وفق هذه التصورات، الإنتقال إلى مرحلة الخطوات السياسية، وإكمال حزمة التبادلات والتنازلات، واستيفاء بقية متطلبات ذلك الاسم التاريخي، الذي يبدو حتى الآن بعيداً وغير قابل للتحقق: “صفقة القرن”.