بقلم: عبد الله العمادي
أغلب من بدأ يومه الجمعة الفائتة بمتابعة الأخبار والأحداث، لا شك وقد صدمته حادثة دخول سفاح أسترالي معتوه مسجد النور في نيوزيلندا، أبعد دول العالم عن التجمعات البشرية، وإطلاقه النار على من جاءوا مبكرين لصلاة الجمعة من رشاشه الآلي، على غرار ألعاب الفيديو العنيفة، بل وقيامه ببث المشاهد الدموية المتوحشة مباشرة عبر منصة فيسبوك، وببرودة دم دنيئة وحشية.
صدمتنا تلك المشاهد غير المألوفة إلا في العوالم الافتراضية، حيث ألعاب الفيديو العنيفة التي سنأتي على ذكرها في ثنايا هذا الحديث.
صدمة ذكرتنا بصدمات كثيرة عشناها وما زالت أمتنا تعيشها، مثل مذبحة الحرم الإبراهيمي في التسعينات على يد سفاح صهيوني، أو المذابح الأكثر بشاعة تلك التي كانت على يد سفاحي الصرب في حربهم على مسلمي البوسنة أواسط التسعينات كذلك، ومذابح جماعية حول العالم بحق المسلمين، تقشعر لها الأبدان كلما بدأ المرء يتفكر فيها ويتذكر بعض مشاهدها.
ما جرى في حادثتي المسجدين بنيوزيلندا، البلدة الهادئة والمشهورة بعزلتها وجودة الحياة فيها وتميزها بالتعليم الراقي، وسلامة بيئتها من الأحقاد والكراهية بين مواطنيها والمقيمين فيها، ليس بالجديد ولا المفاجئ.
لا لنا نحن المسلمين ولا لغيرنا من أمم وشعوب الأرض، باعتبار أن ما حدث هو نتيجة طبيعية لتوتر وشحن إعلامي وسياسي تعيشه مناطق عديدة بالعالم ضد دين الإسلام والمؤمنين به، لاسيما في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية، مستفيدين من وجود آلة إعلامية أخطبوطية جبارة، سريعة التأثير والنفوذ والانتشار، في ظل تقنية اتصالات متقدمة جداً.
•الإسلاموفوبيا ليست ظاهرة جديدة
ما يسمى بالإسلاموفوبيا أو الخوف من الإسلام، ظاهرة ليست جديدة على العالم الغربي، والتي ظهرت بداية في أوائل القرن العشرين (1910) حتى قاربت على التلاشي بعد ظهور كثير من الكتابات لمفكرين ومصلحين من الجانبين الإسلامي والغربي تقلل من شأنها.
لكن قيام الثورة الإيرانية وتبعاتها في بدايات الثمانينيات (1980) من القرن الفائت، دفعتها للحياة مرة أخرى، ليستخدمها كل من له مصلحة في مهاجمة الإسلام والمسلمين، حتى هدأت مرة أخرى أثناء الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفييتي ( 1980 – 1989 ) لتعود سريعاً بعد أحداث سبتمبر (2001) وتشتد ضراوة إلى ساعة الناس هذه !
إذن تلك الظاهرة ليست بالجديدة منذ أن ظهرت وإلى يوم الناس هذا، لكن الجديد في جانبها الأول هو الدخول الأهوج المؤثر لرئيس أقوى إمبراطوريات الأرض اليوم، الولايات المتحدة.
ليدعم بدخوله المباشر هذه الظاهرة، ويكون سبباً لتفعيلها وتأجيج نيرانها من جديد، منذ أن قام بحملاته الانتخابية في (2016) وحتى بعد وصوله لرئاسة البيت الأبيض، واستمراره في تصريحاته التويترية وخطبه هنا وهناك، والتي ما انفكت تهاجم وتحرض وتستفز مسلمي العالم، حتى صار ملهماً لكثيرين من أصحاب النزعات العنصرية المتطرفة من الأوروبيين البيض، الذين ما زالوا يعتقدون بتفوق وعلو العرق الأبيض على سائر أعراق وأجناس البشر! ألم يذكر السفاح الأسترالي إعجابه بالرئيس الأمريكي ترامب؟ ربما كان أحد أبرز الملهمين له .
الفعل الإجرامي للسفاح الأسترالي المعتوه، نتيجة طبيعية لشحن منظم ممنهج مستمر في الإعلام الغربي – والأسترالي منه – ضد الإسلام والمسلمين، حتى ارتبط الاسمان بصور ذهنية غاية في البشاعة والسوء.
ولا شك أن مثل هذا الشحن وهذه الصناعة الاستخباراتية المحترفة للصور الذهنية عن الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي بشكل عام، تؤدي بالضرورة إلى نشوء قناعات معينة لدى من عندهم تلك النزعة العنصرية وروح الاستعلاء على الآخرين، لتجسد تلك القناعات على أرض الواقع، على شكل سلوكيات وأفعال غير قانونية وقبلها غير إنسانية. ولعل هذا هو الوصف الأمثل لما تقوم عليه الأحزاب اليمينية المتطرفة في عموم الغرب، وتحث أعضائها عليه بصورة وأخرى.
•ردود الأفعال الإسلامية الرسمية المحتشمة
مثلما أن ظاهرة الإسلاموفوبيا ليست بالأمر الجديد في الغرب، فكذلك ردود الأفعال المحتشمة للأنظمة الحاكمة في غالبية الدول الإسلامية، ليست بالأمر الجديد.
فقد سئمت الشعوب المسلمة من ردود أفعال رسمييها الحكوميين.
إذ لا تكاد تجد مواقف رسمية مسلمة يمكن البناء أو التعويل عليها لصناعة أعمال مستقبلية إيجابية تحمي وتمنع أي تجاوزات وتعديات على الإسلام ورموزه المقدسة، وصولاً إلى أتباعه والمؤمنين به. والمثال الأخير الذي نتحدث عنه، خير شاهد على ما نذهب إليه. إذ باستثناء التحركات التركية منذ اللحظات الأولى للجريمة، وقيامها بالمستطاع في حدود الإطارات القانونية الدولية، لم نجد أي تحركات منفردة أو تحركات جماعية عبر الكيانات المسلمة المتنوعة، سوى اللهم بعض بيانات إعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع.
•التقنية سلاح ذو حدين
إن الجديد والخطير في الوقت ذاته، والتي فتحت جريمة المسجدين العيون عليها بشكل عميق، هو المدى الذي وصلت إليه التقنية في الاتصال والتواصل، بحيث صارت مؤثرة على الأفكار والسلوكيات إلى درجة يُخشى منها انفلات البشر عن القواعد المتفق عليها ضمنياً في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، واحتمالية تحول البشرية بعد حين من الدهر قصير، إلى وحوش تتقاتل في غابة كبيرة لا حدود لها.. فأن يقوم سفاح عنصري حاقد بعمل بث مباشر لعمليته الإجرامية، مستغلاً ومستفيداً من التقنية والمنصات الرقمية، هو الجديد والمخيف في هذه الجريمة، وربما المقطع الذي بثه وانتشر حول العالم في وقت قصير كانتشار النار في الهشيم، من أبرز أسباب الصدمة التي طالت الجميع، مسلمين وغيرهم ممن شاهدوا الفلم، وقد كان في اعتقاد الأغلبية أنه مقطع من لعبة افتراضية من ألعاب القتال الدموية العنيفة المنتشرة في العالم، التي يقبل عليها ملايين البشر من جميع الأعمار، ذكوراً وإناثا، في مشهد لا يبشر بخير للبشرية جمعاء.
من بين أبرز العوامل التي ساعدت على شيوع الإسلاموفوبيا في العالم، هو هذا التقدم التقني الرهيب في الاتصال والتواصل بين البشر، ومن بعد أن صارت وسائل الإعلام إحدى المظاهر الدالة عليها وقوة تأثيرها في النفوس.
والسفاح الأسترالي هو نموذج لشخص عاش في بيئة كان لوسائل الإعلام الأسترالية دورها في تأجيج الكراهية ضد الأجانب بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، حتى تشبعت النفوس وامتلأت حقداً وغلاً لكل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة.. وأحداث المسجدين ستظل نماذج وشواهد على هذا الفعل غير السوي.
ما لم تتعاون البشرية جميعاً في تفكير معين يضبط هذا الاندفاع التقني، يتم توجيهه نحو صالح البشرية وأمنها واستقرارها، فإن الكراهية مرشحة للشيوع بين البشر، والعنف والجريمة تتعمقان أكثر فأكثر، وقد تصل البشرية إلى مرحلة تسيطر فيها (بلادة الحس والشعور) على الأفعال والسلوكيات، بحيث لا ترى الدماء إلا سوائل حمراء سرعان ما تتخثر وتتبخر، والقتلى كتل لحمية تُدفن لتأتي أخرى، في دوامة من العنف لا أحد يعلم منتهاها، أو السبيل إلى إيقافها وعلاجها.
المصدر :العرب اللندنية