بقلم: علي أنوزلا
لم يترك الإرهابي، برينتون هاريسون تارانت، منفذ الهجوم الوحشي في نيوزيلندا، أية فرصة للقادة الغربيين للتملّص من إدانة الجريمة، فهو لم يختر فقط ضحاياه ومكان الجريمة، وإنما حرص على أن يشرح دوافعها العنصرية في بيان مطول من 74 صفحة، وزعه على الإنترنت، دقائق قبل ارتكابها، وأن يوقعها على سلاحه، ويوثّقها بالصورة والكلمة، ويبثها على الهواء مباشرة. ومع ذلك، تأخرت إدانات عواصم غربية كثيرة. أما الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتهم بتغذية الفكر اليميني المتطرّف في الغرب، والذي أشاد به الإرهابي في بيانه باعتباره “رمزًا للهوية البيضاء المتجددة”، فقد اكتفى بتغريدةٍ عبر فيها عن “أحرّ تعاطفه” و”تضامنه” مع الضحايا وعائلاتهم ومواطنيهم، وكأن الأمر يتعلق بحادث سير مفجع!
الفكر العنصري المتطرّف الذي شحن به تارانت رأسه، قبل أن يشحن به أسلحته الفتاكة، هو نفسه الذي يستنجد به ترامب وإدارته لحشد التأييد لسياسته العنصرية ضد المسلمين والمهاجرين واللاجئين. وهو فكر القاعدة الانتخابية للرئيس الأميركي التي ما زال يعول عليها في انتخابات 2020. ولو كان تارانت مسلما لما توانى الغرب في إيجاد الربط المباشر بين فعله الإجرامي ومعتقده الإيديولوجي، ليحمل المسؤولية إلى كل من يحمل المعتقد نفسه، حتى لو كان اسمه محمد على اسم (ص) نبي الإسلام الذي توفي قبل أكثر من 14 قرنا (!). ألم يحدث ذلك عندما ربط رسامو كاريكاتير في الغرب، بكيفيةٍ ساخرة، بين الفكر الإرهابي ونبي الإسلام؟!
في تبريره جريمته، كتب الإرهابي، في بيانه، أن هجماته غذّتها كراهيته المهاجرين المسلمين، الذين وصفهم بأنهم غزاة، يهدّدون السلامة الديمغرافية للأمة البيضاء. وتخيّل نفسه “بطلا” من محاربي الحروب الصليبية الذين كتب أسماءهم على أسلحته الأتوماتيكية. .. إنه الفكر المتطرف نفسه الذي لا يقل خطورة عن فكر “داعش” و”القاعدة”، فكلاهما يرى في الآخر “جحيما” تجب إبادته. ويعتقد تارانت أن السكان البيض في العالم يواجهون “إبادة جماعية”، بسبب انخفاض المواليد في الغرب، والهجرة الجماعية نحو بلدانه. ويعتقد أصحاب الفكر المتطرّف المنسوب إلى الإسلام أن الإسلام يتعرّض لمؤامرة عالمية، تسعى إلى تشويه قيمه، ومحو آثاره من على الأرض، وإبادة المؤمنين به. وهذا هو جوهر الفكر العنصري الذي يعتنقه البيض المتطرفون ممن يعتقدون أن قوتهم السياسية مهدّدة بسبب الهجرة. وإذا كان التطرّف الذي ينسب إلى الإسلام يجد من يدينه بصراحة من داخل العالم الإسلامي، فقد حان الوقت ليتحلى بعض قادة الدول الغربية وزعماؤها السياسيون ومفكروها وإعلامها، لتسمية الأشياء بمسمياتها، ويدينوا صراحة الإيديولوجية اليمينية العنصرية المتطرّفة المبنية على نظرية التفوق الوهمي للإنسان الأبيض.
“ما يسمّى الإرهاب الأبيض ليس وليد اليوم، ولا يقل خطورة عن جميع أنواع الإرهاب الأخرى” |
مع الأسف، لا توجد هذه الإيديولوجيا فقط في ذهن تارانت، وأشباهه من المجرمين المتطرّفين، البيض، وإنما أيضا يمكن أن نلمس تأثيرها في السلوك العام للإنسان الأبيض، ورد فعله ضد العمل الإرهابي الذي يختلف، حسب اختلاف الضحايا، ولون بشرتهم ونوع معتقدهم. لذلك لم نشهد تأجيجا عالميا لمشاعر التضامن مع ضحايا مسجدي كرايستشيرش في نيوزيلندا، كما حدث مرارا وتكرارا، وهذا مطلوب في كل وقت، مع جرائم إرهابية كان ضحيتها الإنسان الغربي الأبيض!
الإرهاب كما يقال “لا دين له”، قد يختلف الضحايا، لكن القتل هو نفسه. وتارانت لا يختلف عن كل الدواعش وإرهابيي “القاعدة” أو “بوكوحرام”. أعداؤهم مختلفون، لكن ضحاياهم متشابهون، أناسٌ أبرياء لا يهم لون بشرتهم أو نوع معتقدهم. وفي وسعنا أن نصنع الفرق عندما نعتبر أن كل أنواع الإرهاب وجوه متعدّدة للفكر المريض نفسه الذي يعشش في العقول الضعيفة، مثل فيروس خبيث وشرير، إلى أن يستحوذ عليها ويحولها قنابل متفجرة وقاتلة، فالفكر الإرهابي هو نفسه، شرقيا كان أم غربيا، يؤمن بنظرية المؤامرة التي تزرع في ذهن أصحابها الخوف من الآخر الذي تصوّره دائما على شكل غازٍ أو محتل، وتحرّضهم على مواجهته، والتصدي له لحماية أنفسهم من الاضطهاد والاندثار. وفي كل الحالات، فإن الإرهاب، بغض النظر عن الفكر الإيديولوجي الذي يغذيه، يتخذ دائما من العنف شكلا من أشكال الدعاية المقيتة له، وهذا ما سعى إليه تارانت، من خلال عملية البث المباشر لفعله الإجرامي المدان، وما تعودت تنظيمات إرهابية على فعله، عندما كانت تسارع إلى تبني أفعالها الإجرامية، في بيانات معدة سلفا، لتبرير الجريمة، ففيديو تارانت لا يقل بشاعة وفظاعة عن فيديوهات إعدامات “داعش” البشعة.
“لم نشهد تأجيجا عالميا لمشاعر التضامن مع ضحايا مسجدي كرايستشيرش في نيوزيلندا” |
ما يسمّى “الإرهاب الأبيض” ليس وليد اليوم، ولا يقل خطورة عن جميع أنواع الإرهاب الأخرى، والفرق الوحيد اليوم بين أنواع الإرهاب التي تهز البلدان الآمنة، وتزهق الأرواح البريئة، هو تنافسها في قتل أكبر عدد من الضحايا، لضمان دعاية أكبر لجرائمها، وبالتالي لفكرها، فهؤلاء المرضى لا يهمهم عدد الأرواح التي يزهقونها، ولا يلتفتون إلى حجم الحزن الذي تخلفه أفعالهم الإجرامية في ضحاياهم، أو أقارب ضحاياهم، وكل ما يفكّرون فيه هو منسوب الدعاية لفكرهم الحقير، ولأنفسهم المريضة، من وراء أفعالهم المروعة.
حان الوقت ليتحلى الجميع بقدر كبير من الشجاعة والحكمة أيضا، وخصوصا قادة الفكر والسياسة في الغرب، في مقاربة الإرهاب الأبيض الذي يتخذ من فكرة تفوّق الإنسان الأبيض عقيدة له، والأخذ بمحمل الجد الخطر الداهم الذي يمثله لتحصين العالم ضده، فهو يهدّد، أولا وقبل كل شيء، المجتمعات التي يفترض أنه يدافع عنها، لأنه سيأتي اليوم الذي سيفجرها من الداخل، تماما كما يفعل اليوم إرهابٌ كثيرٌ محسوب على الإسلام الذي يفتك بالمسلمين ومجتمعاتهم قبل غيرهم، على الرغم من ادعائه الدفاع عنهم وحمايتهم!
المصدر: العربي الجديد