كانت هناك ثلاث ساعاتٍ تفصلنا عن بداية العرض. رغم ذلك، جلس أعضاء هذه الأوركسترا على خشبة مسرحٍ مُقامٍ في حديقة ديرٍ يعود عمره إلى ألف عامٍ تقريباً، ويقع على مشارف مدينة كولونيا الألمانية. وبتتابعٍ منظم، بدأ الموسيقيون بملابسهم الأنيقة سوداء اللون، رفع “آلاتهم” ببطء، وبدء عزف افتتاحية باليه “طقوس الربيع” للمؤلف الموسيقي الروسي إيغور سترافينسكي.
لكن سرعان ما أوقفهم أحد مهندسي الصوت على حين غرة، فصوت آلات “الفلوت” المُعدة من الجزر كان قوياً للغاية، فيما لم يكن صوت الكمان المصنوع من الكراث مسموعاً له تقريباً. بعدها خاطبهم قائلاً: “مرةً أخرى، ولنبدأ بالخيار”.
أهلاً بكم في إحدى حفلات أوركسترا فيينا للخضروات، المؤلفة من 10 عازفين جاءوا من المدينة – التي أنجبت موسيقيين من طراز بيتهوفن وموتسارت ويوهانس برامس – ليعزفوا على أدواتٍ مُصنوعة بالكامل من خضرواتٍ طازجة.
وعلى مدار السنوات الـ 21 الماضية، أحيت الفرقة قرابة 300 حفلٍ موسيقيٍ في قاعاتٍ وأماكنٍ مكتظةٍ بالجماهير في مختلف أنحاء العالم. وعزف أعضاؤها في هذه الحفلات كل أنواع الموسيقى، من المقطوعات الكلاسيكية إلى موسيقى “التكنو” عبر أدواتٍ من ثمار اللفت، ليقدموا بذلك وجبةً شهيةً حافلةً وغنيةً بالإيقاعات. وقد أطلقت الأوركسترا مؤخراً ألبومها الرابع، بعد حملةٍ ناجحةٍ لجمع أموالٍ لصالح الأعشاب والنباتات الطبية.
تقول سوزانا غارتماير، التي تعزف على قرابة عشر من الأدوات الموسيقية المصنوعة من الخضروات، من بينها الماريمبا المصنوعة من الجزر والناي المُعد من الفجل، إنه لا يمكن توقع ما يمكن أن يصدر عن الخضروات من أصوات “فحتى ثمار النوع نفسه تختلف فيما بينها. إنه لتحدٍ كبير”.
وبخلاف الآلات الموسيقية التقليدية التي يمكن أن تبقى قيد الاستخدام لمئات السنين، يمكن أن تفسد “الخضروات الموسيقية” هذه بسرعة، وهو ما يوجب على الأوركسترا إعداد أدواتٍ جديدةٍ منها في كل مرةٍ تستخدمها فيها.
ولذا ففي ساعات الصباح السابقة لمساء يوم الحفل، تتوجه مجموعة العازفين – التي تضم فنانين وروائيين ومصممين ومهندسين معماريين – إلى الأسواق القريبة من مكان العرض، ومعهم قائمة مشترياتٍ مُفصلة. ثم تعكف المجموعة على التنقيب في الأقفاص عن بغيتها، ليربت أفرادها على ثمار القرع ويتلمسون أوراق المقدونس ويفحصون رؤوس البصل، من أجل اختيار الأفضل حالاً منها جميعاً.
وبعد ذلك، ينخرطون في تقطيع وثقب مشترياتهم من الخضروات، لتحويلها إلى أدواتٍ موسيقيةٍ جاهزةٍ للعزف عليها. وبمجرد الانتهاء من هذه العملية، يصبح بوسع العازفين استخدام هذه الأدوات لمدةٍ لا تتجاوز ست ساعاتٍ، وهو ما يجعلهم ينتفعون بالخضروات التي لا تُستخدم في العرض، لتحضير حساءٍ يُقدم للجمهور في أعقابه.
وفي صباح يوم حفل الدير القريب من كولونيا، كان في انتظار الفرقة مفاجأةٌ غير سارة بل ومشكلةٌ كبيرة، فقد نسي أحدهم إحضار الباذنجان، كما كانت كميات الكوسا التي تم جلبها غير كافية.
وبينما هرع أحد العازفين للسوق لإحضار هذه المستلزمات، حوّل الباقون غرفة تبديل الملابس في ذلك الدير، إلى ما يشبه موقع بناء. فعلى مدار الساعتين التاليتين، انهمك العازفون بسكاكينهم وأدوات الثقب الخاصة بهم، في إحداث تجاويف في ثمار الخيار والجزر لتصبح ناياتٍ وأبواقاً، وفي قطع رؤوس قرون الفلفل بهدف تحويلها إلى آلات الترومبون، فضلاً عن تشكيل جذور الكرفس اللفتي وثمار القرع المُقطعة لشرائح في صورة طبولٍ كبيرة، وأخرى صغيرة مزدوجة من تلك المعروفة باسم “بونغو”.
ويتولى كل عضو من أعضاء الأوركسترا إعداد ما بين 8 و25 أداةً موسيقيةً قبل كل حفل. وبينما كان كلٌ منهم يختبر “آلاته” ويعكف على إعدادها لكي تُصدر النغمات المطلوبة منها، ترددت أصداء نغماتها على نحوٍ مفاجئِ ومدهشٍ في جنبات الدير.
وفي قلب الغرفة التي باتت تفوح برائحةٍ تشبه تلك المنبعثة من صناديق حفظ السماد، قال لنا ماتياس ماينهارتر – وهو أحد العازفين المؤسسين للفرقة – إن “الأمر كله بدأ بمزحة”، خلال مشاركته وثلاثة من زملائه اللاحقين في الأوركسترا في مهرجانٍ لفنون الأداء في جامعتهم في فيينا. حينها، ظل ورفاقه يفكرون في ما يمكن لهم تقديمه في المهرجان.
وقال “فكرنا فيما هو أصعب ما يمكن استخدامه للعزف الموسيقي. كنا نشارك حينذاك في تحضير حساءٍ، وتبلورت الأفكار تدريجياً” حتى وصلوا إلى فكرة تأسيس “أوركسترا الخضروات”.
وبعد 21 عاماً على تلك اللحظة، كانت الفرقة قد أحيت حفلاتٍ في أماكن شتى، من بينها قاعة ألبرت الملكية في لندن ومركز شنغهاي للفنون في الصين، وكذلك في قصرٍ لثريٍ من الطبقة الحاكمة في أوكرانيا، لتقديم عرضٍ بمناسبة عيد الميلاد الستين لبول مكارتني، أحد أعضاء فرقة البيتلز الشهيرة. وقال ماينهارتر في هذا الشأن: “أعتقد أن الأمر استهواه، فهو نباتي”.
كما أُدْرِجَت هذه الأوركسترا الفريدة من نوعها في موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، بوصفها الفرقة صاحبة العدد الأكبر من الحفلات التي استُخْدِمَت فيها “آلاتٌ موسيقيةٌ من الخضروات”. وشكّلت كذلك مصدر إلهامٍ أدى لظهور فرقٍ مماثلةٍ في أنحاء شتى من العالم، بينها واحدةٌ في العاصمة البريطانية لندن. وهكذا فبينما بدأ المشروع وكأنه مزحة، فإن المشاركين فيه الآن يأخذونه على محمل الجد.
وبالعودة إلى غارتماير سنجدها منهمكةً في صنع آلة سيلوفون أو إكسيليفون من جذور الجزر، وتقول: “الكثيرون يظنون أننا بمثابة ملهى أو أننا نقدم أداءً مسلياً وغريباً ليس إلا. لكنهم يُدهشون عندما يفهمون أن هناك في الواقع الكثير من الإمكانيات الصوتية الكامنة في الخضروات، وحين يدركون أننا نريد – وبحق – تقديم موسيقى ممتعة”.
وقد ابتكرت هذه الأوركسترا أكثر من 150 أداةً موسيقيةً طيلة السنوات الماضية. ويمثل ذلك للكثير من أعضائها جانبٌ لا يُستهان به من المتعة الكامنة في عملهم.
وعلى أي حال، يمكن تحويل بعض الخضروات إلى آلاتٍ بسهولةٍ نسبيةٍ، كأن تسحق قشر البصل الجاف بقوةٍ لينتج عن ذلك صوت عاصفةٍ، وأن تربت على القرع براحة يدك للحصول على صوت قرع الطبول.
لكن ثماراً أخرى تحتاج للتدخل بشكلٍ أكبر لكي يتسنى إدخالها ضمن آلات الأوركسترا، وذلك عبر تقطيعها أو إحداث تجاويف فيها لتحويلها إلى أدواتٍ موسيقيةٍ تقليدية. فبوسعك مثلاً عبر هذه الطرق تحويل الجزر الأبيض والكوسا والفلفل إلى مجموعةٍ جيدةٍ من الآلات النحاسية وآلات النفخ.
لكن الأمر الأكثر تعقيداً يتمثل في صنع “آلاتٍ هجينة” يمتزج فيها نوعان أو أكثر من الخضروات. فمن الممكن إعداد آلةٍ شبيهةٍ بـ”سيلوفون” عبر الجمع بين قرون فلفل مقطوعة الرأس، ووضعها في نهاية ثمار خيارٍ مُجوفة وإضافة جذور جزرٍ إليها. وإذا أردت أن يصدر عن هذه “الآلة المبتكرة” صوتاً أعمق، بمقدورك استخدام الكوسا بدلاً من الخيار، ليكون لديك آلة كلارينيت فريدةٌ من نوعها.
وهناك نقطةٌ أخرى يشير إليها يورغِن برلاكوفيتش، الذي يعزف على الآلات المصنوعة من ثمار القرع ونبات الكالاباش الخياري، وهي المتعلقة بالتعرف – عبر إقامة حفلاتٍ في أماكن مختلفةٍ من العالم – على الاختلافات القائمة بين كل دولةٍ وأخرى، في ما يتعلق بالنباتات والأطعمة المتوافرة فيها، وهو ما يقود كذلك إلى ابتكار “أدواتٍ جديدةٍ بكل معنى الكلمة”.
ففي جنوب آسيا، اكتشفت الفرقة أعشاب ثومٍ مرنةً أفادت في صنع آلاتٍ وتريةٍ تُصدر أصواتاً عميقةً. وفي الولايات المتحدة، وجد أعضاؤها أسواقاً تُباع فيها أوراق صبارٍ أمريكيٍ عملاقة يمكن استخدامها لإحداث الصوت المنبعث من أدواتٍ يشيع استخدامها في الفرق الموسيقية الكاريبية واللاتينية، لإحداث صوت خشخشةٍ إيقاعية. أما في الصين، فوجدوا أنواعاً أكبر من الفجل، بينما كان الخيار في إيطاليا أصغر حجماً مما اعتادوه، وفوجئوا بارتفاع أسعار الخضروات بوجهٍ عام في سيبيريا. وماذا عن إنجلترا؟ يقول ماينهارتر: ” هناك لفت. الكثير من اللفت”.
ورغم تقديم هذه الفرقة أعمالاً موسيقيةً كلاسيكيةً وأخرى لفريق “كرافتفيرك” الألماني الذي أُسِسَ في سبعينيات القرن الماضي، فإنها تعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على أعمالٍ تؤلفها خصيصاً للعروض التي تقدمها.
وتتنوع موسيقاها هذه بين أعمالٍ إليكترونية ذات إيقاعاتٍ هادئة أو قاتمة، وأخرى تُعرف بـ “موسيقى الهاوس” تعتمد على قرع الطبول، وظهرت في مدينة شيكاغو الأمريكية في مطلع ثمانينيات القرن العشرين.
ولأجل إحداث هذه الإيقاعات، يُثبِت أعضاء الأوركسترا على آلاتهم الخضرية مكبرات صوتٍ دقيقة وأجهزة التقاط صغيرة الحجم بشدة، بهدف تضخيم الأصوات الطبيعية الصادرة من تلك الخضروات، ولجعلها “تنبض بالحياة” كما يقول برلاكوفيتش. لكنهم واجهوا تحدياتٍ على هذا الصعيد، من بينها عدم وجود إمكانية لكتابة نوتةٍ موسيقيةٍ للآلات المصنوعة من الخضروات.
فالأصوات المنبعثة منها يمكن أن تتباين بفعل اختلاف أشكالها، من قفصٍ لآخر ومن دولةٍ لأخرى. ولذا فبدلاً من كتابة نوتة موسيقية، ابتكرت الفرقة ما يشبه جدولاً زمنياً يُظهر التوقيت الذي تبدأ كل آلة فيه العزف، بجانب رسمٍ بيانيٍ لتحديد توقيتات صدور النغمات العالية والمنخفضة. ويقول برلاكوفيتش: “ليس بمقدور أحد قراءة ذلك. إنه يشبه شفرةً سريةً”.
وبعد تحقق العازفين من أن كل التفاصيل المتعلقة بالصوت على ما يرام، سارعوا بلف “آلاتهم” بمناشف مبللة قليلاً. لكنهم اكتشفوا في ذلك الوقت، أي قبل نحو 90 دقيقةً على بداية العرض، أن الخضروات التي يستعدون للعزف عليها في حالةٍ سيئة. فالطقس – كما قالت لنا باربارا كايزر إحدى مؤسسات الفرقة – كان حاراً على نحوٍ غير معتاد، وهو ما أدى إلى أن تصبح “الآلات الموسيقية” جافةً وقابلة للكسر والتهشم. لكن كايزر لم تنس أن تلفت الانتباه إلى ما اعتبرته أمراً يروق لهذه الخضروات، ألا وهو أن “تموت بشكلٍ دراماتيكيٍ على خشبة المسرح”.
ومع غروب الشمس، أشعل فريق من الشبان الذين يرتدون سترات سهرةٍ سوداء اللون المشاعل حول فناء الدير وفتحوا الأبواب. وسرعان ما دلف مئاتٌ من الألمان إلى المكان، وكثيرٌ منهم يسألون بعضهم بعضاً، عما إذا كانوا قد سمعوا من قبل بهذه الأوركسترا أم لا.
وبينما اتخذ أعضاء الفرقة أماكنهم جميعاً على المسرح ووضعوا بعض الثمار أمامهم، تردد صدى بضع ضحكاتٍ عصبيةٍ في جنبات المكان. ولم يلبث برلاكوفيتش أن افتتح العزف وتلاه زملاؤه باستخدام مختلف الخضروات التي سبق لهم تجهيزها، لتصدح في الفناء أغنيةٌ ذات إيقاعاتٍ قبليةٍ، تُدخل سامعيها في حالةٍ تشبه الغشية من فرط النشوة.
ومع الوصول إلى الأغنية الثالثة، كان الجمهور قد صار متجاوباً بالفعل مع طبيعة التركيبة الموسيقية الفريدة المحيطة به، بما فيها من طقطقة سيقان الكرفس وخشخشة أوراق البصل وغيرها، وكذلك الاستماع إلى ما يشبه صوت الرياح الناجم عن فرك حزمتين من المقدونس ببعضها البعض.
أما خلال الأغنية الرابعة، فقد كانت رؤوس كل الموجودين تقريباً – والبالغ عددهم 500 شخص – تتمايل إعجاباً، باستثناء سيدةٍ ترتدي فستاناً أسود وتجلس في الصف الأمامي وتبدو عليها الجدية وملامح التقدم في السن.
ومع دنو الحفل من نهايته، بدأت أجزاءٌ من الآلات الموسيقية الخضرية هذه، في التطاير من على خشبة المسرح مع كل نقرةٍ أو نفخةٍ في فوهات النايات. وعندما وصلت الفرقة إلى ذروة أغنيتها الأخيرة، التي استخدمت فيها بعض البقوليات والبطاطا كذلك، تحولت خشبة المسرح التي كانت نظيفةً في السابق، إلى ما يشبه أرضية سوقٍ للخضروات شهد انفجاراً للتو. حينذاك، أنحنى أعضاء الأوركسترا للتصفيق الذي حظوا به من الجمهور، وشرعوا في الوقت نفسه في تنظيف كل ما غطى الخشبة من مخلفات.
ويقول ماينهارتر: “تظل هذه بالنسبة لي تجربة أداءٍ تخاطب الكثير من الحواس. فبوسع الجمهور الاستماع للموسيقى وشم رائحتها ورؤيتها ومن ثم تذوقها كذلك”.
وبعد انتهاء الحفل، حاصر حشدٌ من الجمهور العازفين الموسيقيين، وكلهم لهفة لشراء اسطواناتٍ مدمجة أو التقاط صورٍ مع أفراد الفرقة، وأيضاً لتذوق ما “استمعوا” له للتو. وللوفاء بتقليدٍ مستمرٍ من 21 عاماً، عرض أعضاء الأوركسترا منح آلاتهم، إلى أي شخصٍ قد يحلو له تجربتها للعزف عليها في منزله.
وهكذا، فحينما سألت سوزانا غارتماير عما إذا كان هناك من يهتم بالحصول على آلة “البوق” أو “الترومبيت” الخاصة بها والمصنوعة من الفلفل، مدت السيدة المتقدمة في العمر ذات الرداء الأسود – التي تحدثنا عنها سابقاً – يدها للحصول عليها، قبل أن تدسها في حقيبتها وتسير بخفة نحو باب الخروج. وعندما ظنت هذه السيدة أنها بعيدةٌ تماماً عن الأنظار، أخرجت تلك الآلة الخضرية من الحقيبة، ووضعتها على فمها، قبل أن تُطلق صوتا طويلاً وقوياً مماثلاً لذاك الذي تطلقه طيور البوم عادةً.
المصدر: BBC