بقلم: مهنا الحبيل
حبس اندلاع المواجهة العسكرية بين الهند وباكستان أنفاس الشرق، على الرغم من أنها لا توصف بحالةِ حربٍ حتى الآن، فمآسي بلدان الشرق، وخصوصاً المسلم، اليوم، تُعطي مؤشراتٍ واضحة إلى حجم الكوارث التي حلّت في البلدان التي تندلع فيها حروبٌ، أو مواجهاتٌ مسلحة واسعة، تصل إلى خط الحرب الأهلية أو دونها، في ظل ذاكرةٍ مروعةٍ عاشتها كل آسيا الهندية، في حروبٍ عدة بين نيودلهي وإسلام آباد، انفصلت عبرها باكستان الشرقية التي تسمّى اليوم بنغلادش.ولا تزال آثار هذه الحرب مؤثرة، إذ أعدمت السلطة الحاكمة في دكا قياداتٍ من الجماعة الإسلامية، بناء على اتهامات سياسية لذلك العهد، كانت فيه الرؤى لم تُحسم بعد، رغم أن القومية المشتركة والرسالة الإسلامية تجمع بين شعب باكستان بقسميها، التي تحولت إلى دولتين بعد دعم الهند بنغلادش، غير أن هذه القومية التي تتفرع عنها قومياتٌ متعدّدة، بين إقليمي السند والبنجاب، لا تزال يضطرم صراعها. ولذلك كان قرار دكا أقرب إلى التصفية السياسية للمعارضين، فمن الصعب أن يفرز مجرم جنائي عن موقف سياسي في ظل حرب تقسيمٍ لبلد واحد، كل هذا ضمن سياق فهم ميلاد باكستان التي اختارته الحركة الوطنية، وقيادتها العلمانية ذات الفكرة الإسلامية المشتركة، بين محمد علي جناح، والفيلسوف الإسلامي الكبير محمد إقبال. حينها، رأت الحركة الوطنية، وضميرها الإسلامي، أن صعود التطرّف الهندوسي الذي أوقده المستعمر البريطاني وعزّزه، يقطع الطريق على تضحياتهم الوطنية مع المهاتما غاندي، وأن قيم غاندي لن تستطيع الوقوف في مواجهة هذه الحملة، ووضع مسلمي الهند تحت مستقبل مجهول.
“كشمير، وفكرة الصراع في حربٍ باردة مع الهند، تحولت إلى مأزقٍ داخليٍ لباكستان” |
ومن المفارقات أن الأستاذ أبو الأعلى المودودي، القيادي المؤسس للجماعة الإسلامية، لم يكن متحّمساً لإنشاء الدولة الباكستانية، وهي مسألة كانت مثار جدل، فهل كان الأفضل أن يبقى المسلمون في دولة الهند، وهم صُنّاع أصيلون في تاريخها الحضاري، وسيرتها الاجتماعية، وكانت بصمة التعايش والانسجام قائمةً، في تلك العهود الإسلامية؟ أم يقيمون دولتهم المستقلة لحماية أجيالهم؟ إشكالية الصعود اليميني المتطرف التي تجتاح العالم اليوم، ونراه في الهند وبورما، في الطرفين، الهندوسي والبوذي، والذي يمارس إباداتٍ جماعية، تؤكّد دائماً أن بروز التطرّف الديني في مجتمعات إسلامية موجود في أديان متعدّدة، ضمن ظاهرة سقوط الشرق في فخ الخطط الاستعمارية القديمة، حتى تحوّل إلى وباءٍ من الصعوبة إخراجه من الشرق.
هنا نفهم الأزمة التي بقيت من آثار ذلك الصراع، وخصوصاً في كشمير ذات الغالبية والتاريخ المدني الإسلامي الواضح. ولكن كشمير، وفكرة الصراع في حربٍ باردة مع الهند، تحولت إلى مأزقٍ داخليٍ لباكستان، منع قيام حكم مدني قوي، يستمد روحه من الضمير الإسلامي، ودولة دستورية قوية بمجتمعها المدني، وصعدت، عبر هذه الأزمة، قوة عميقة في الجيش الباكستاني، تمنع وصول الشعب إلى الخيار الديمقراطي الحر، والذي يصهر الجيش كمؤسسة قومية، تخضع للإرادة الشعبية.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تعتريها، في أقاليمها وتعدّدها الديني، نجحت الهند في بناء دولة سيادة سياسية، لم تنج من الفساد، لكنها كرّست الصعود المدني، ووضع الجيش تحت قرار الإرادة الشعبية المنتخبة. والمؤسف أن الهند لم تُحول هذا الصعود إلى تعزيز للشراكة القيمية، ولجم التطرّف الهندوسي، بل على العكس، تصاعد هذا واستمر منذ جريمة هدم المسجد بابري، ما يعتبر كارثة حضارية. واليوم يستمر التعصب، ليهدّد كل رمز اجتماعي حضاري للهند في تاريخ مسلميها، ومنها معلم تاج محل الشهير.
أما باكستان، فاستمرت لعبة العسكريين الذين دعمتهم واشنطن، ذات الموقف المنافق الذي شجع ديمقراطية الهند، ودعم العسكرة في باكستان، وظل يُعيّرها به، ويضغط عليها، ويستثمر أخطاءها، ومن أخطرها دخول الجيش، وأطراف فاسدة سياسية، في لعبة الكفاح المشروع للشعب الكشميري الذي كان يحتاج مظلة كفاح مدني، تطوّر من نضالها، وتخفّف من آثار القمع الأمني الهندي لشعبها وحقوقهم المدنية، فتظل باكستان وفيّة لهذا الإقليم، من دون زجّه في حروب موسمية.
“زجّ باكستان في أتون حربٍ هندية عملية استدراج جهنمية” |
وهذا لا يعني صحة اتهامات الهند لباكستان بالمطلق، بل لعبت المخابرات الهندية أدواراً قذرة أيضاً، في باكستان وكشمير المحتلة، وفي اللعبة الكبرى في أفغانستان، لكنّها حوّلت خطايا الدولة العميقة في باكستان، والتي ساهمت في تدمير رحلة الكفاح الأفغاني للحرية، وبحر الدماء عبر تدخلاتها الأفغانية، وإطلاق واشنطن الوصاية لها في ذلك الحين، لوقف الزحف الأحمر بكل وسيلة، وهو ما تحوّل إلى نصر سياسي اليوم للهند، في ظل تنامي الكراهية، حتى بين البشتون، لباكستان، بسبب جرائم الدولة العميقة في عسكرها.
لذلك لا يمكن عزل الاشتباك الجديد عن أزمة باكستان، ولعبة الهند الخاصة التي تستنزفها، وتستنزف الهند أيضاً بوصفها أمة شرقية. ولا يُعتقد أبداً أن رئيس الحكومة الباكستاني، عمران خان، يجهل هذا الأمر، بل يعلم أن مساحة بقائه اليوم لا تزال في قبضة العسكر، وأن إطاحته بعد تصفية عهود الرابطة الإسلامية والتلاعب بها، في ظل حالات فساد ضخمة، تورّطت بها الحياة السياسية في باكستان، مشروع يمكن أن يُفجّر في وجه خان في أي وقت.
الكارثة أن مثل هذه التصفيات تُسدد من حساب أمن باكستان وأمن الإقليم، ولو نجح عمران خان في العبور بباكستان إلى دولة مدنية مستقرة، ذات قضاء مستقل، فسيفتح الباب لدولةٍ مسلمةٍ في آسيا الهندية، تعبر إلى قوة نهضة تعليم ومجتمع، وتحافظ على إنجازات العسكري الباكستاني، كقوة حماية قومية. وإذا تزامن ذلك مع سحب بقية أدوات اللعبة القديمة في أفغانستان، ودعم عملية السلام فيها، فستكون اللحظة التي تنجح فيها باكستان، في استعادة قيادتها القومية، من هنا نفهم أن زجّ باكستان في أتون حربٍ هندية عملية استدراج جهنمية.
المصدر: العربي الجديد