بقلم: مثنى عبد الله
في الثالث من الشهر الجاري مارس/ آذار، أعلنت هيئة علماء المسلمين في العراق عن (الميثاق الوطني العراقي). وهو وثيقة أساسية حددت الملامح العامة والأطر الجامعة للقوى والأحزاب والتجمعات والشخصيات المستقلة، التي ترى أن العملية السياسية الجارية، والنظام السياسي الذي انبثق عنها، والذي يقود البلاد منذ عام 2003 وحتى اليوم، كلها جزء من مشروع الاحتلال، وصفحة من صفحات أجندته.
وقد أكد الميثاق على أساسيات فهم هذه القوى لما يعنيه مفهوم الدولة والمواطنة، بما يتضمنه من وحدة البلاد، والمصادر الأساسية للتشريع، والرؤية في حل القضية الكردية، وحقوق الشعب العراقي كافة، في الثروات، ومسؤولية الدولة في تنميتها. كما أوضح الميثاق الموقف من النظام السياسي، وموقف هذه القوى من موضوع السلطات والدستور والقوات المسلحة، والمرأة والطفولة وحقوق الإنسان، وحق المقاومة. وأدان الإرهاب بكل أشكاله، لأنه يستهدف حياة وممتلكات الأبرياء، وأكد على الالتزام بالمعاهدات الدولية، وإقامة العلاقات الطبيعية مع دول الجوار، وما بعد الجوار في جميع أرجاء العالم. ولم ينس الحقوق المترتبة لشعبنا على الغزاة المحتلين، فدعا إلى المطالبة الدولية بالتعويضات للشعب العراقي عما لحق به من أضرار، بسبب العمليات الحربية التي وقعت خلال الغزو، وسنوات الاحتلال. ومن منطلق الإيمان الذي لا يتزعزع بالقضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية، فقد أكد الميثاق على أن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، داعيا إلى دعم الشعب العربي في فلسطين لتحقيق هذا الهدف.
وإذا كان الميثاق الذي أُعلن عنه، ليس الجهد الأول لهيئة علماء المسلمين، حيث سبقته جهود كبيرة أفضت إلى (ميثاق التفاهم والعمل الوطني للمؤتمر التأسيسي العراقي الوطني عام 2004)، و(اللقاء التشاوري العراقي عام 2014)، و(الورقة الأساسية للمشروع الوطني عام 2015)، فإن النظر إلى مسيرة الهيئة ودراسة مواقفها، منذ تاريخ تأسيسها في عام 2003 وحتى اليوم، يصبح من الإنصاف القول بأنها الكيان العراقي الوحيد الذي بقي خط سيره دون منحنيات، على الرغم من الظروف الصعبة التي واجهتها محليا وعربيا ودوليا. في حين سقط الكثير من الكيانات، بعضها ذو طابع إسلامي من نسيج الهيئة الاجتماعي نفسه، في فخ المزايدات والإغراءات السياسية، وحسابات المصالح وبيع وشراء المواقف. وكان مرد ذلك كله إلى أنها، وعلى الرغم من تعاطيها في الشأن السياسي، لكنها تجنبت الانصياع لقوانين وأعراف السياسات اللاأخلاقية، والخوض في دهاليز السياسة ومنعرجاتها، التي ألقت بالكثير من سالكيها في مهاوي المواقف الخيانية، أو قادتهم إلى الانتحار السياسي، على أقل تقدير وفي أضعف الإيمان.
وقد شهدنا حدوث ذلك كمصير للكثير من القوى والحركات والشخصيات، التي كان خط شروعها في العمل الوطني على خط شروع الهيئة نفسه في بدايات التأسيس. فكان أن اندثروا بعد أن اختاروا الركوب في مركب العملية السياسية، التي عارضوها في البداية، أو بسبب الخضوع للتهديد والابتزاز الإقليمي والدولي. لكن الذي حفظ الهيئة من هذا المصير، وطهرها من أدران العمل السياسي وتقلباته، هو جنوح القائمين عليها إلى اتخاذ المبادئ سبيلا في العمل، والنظر إلى القضية العراقية على أنها مسألة مبدأية، وليست ملفا سياسيا وحسب. ولأنها أحرجت الكثيرين في هذا الموقف، حتى أولئك الذين لهم تاريخ طويل وعريض في العمل السياسي، فقد عاب عليها البعض هذا الالتزام المبدئي، وعدّوه تخبطا وعدم إدراك لمقتضيات العمل السياسي، ومتطلبات المرونة المطلوبة والمحسوبة، وقول خذ وطالب، وغيرها من الأقوال التي تلوكها السنة العاملين في الحقل السياسي لتبرير مواقفهم المتناقضة أحيانا.
الدول لديها مصالح تقود سياساتها، والنظام الذي يستثمرون فيه اليوم قد يتركونه غدا
وفي خضم الدعوات الكثيرة التي انطلقت في العراق، من قبل بعض الذين عارضوا العملية السياسية، خلال سنوات الاحتلال الاولى، بضرورة مهادنة المحتلين، وانتظار ما سيسفر عنه مشروعهم. والتعقل لحين فهم حجم المنافع ودرء المفاسد، التي ستتضح حسب قولهم، قرنت الهيئة الأقوال بالأفعال، وكانت من أوائل المتصدين للغزاة، وفق الحق القانوني الذي كفلته لهم شرائع الارض والسماء، ألا وهو حق المقاومة المسلحة وغير المسلحة. وفي سنوات الفرز الطائفي المقيت، الذي سقط في فخه الكثيرون، وبات الجهر بالطائفة والنفخ في بوقها بوجه الاخرين، يُحسب على أنه شجاعة وانتصار للنسيج الاجتماعي، لم يتخل القائمون على قرار الهيئة عن الهم الوطني لحساب الهم الطائفي يوما. كما لم تتنحى جانبا في أيام الكوارث الإنسانية التي حلت بشعبنا، ولم تتركهم بدون تقديم العون المادي والمعنوي لهم، في مخيمات التهجير التي غطت مساحة واسعة من العراق، وحتى من قذفت بهم الظروف الصعبة في دول الجوار كمهاجرين تواصلت معهم، وحاولت تسهيل أمورهم لدى حكومات تلك الدول قدر المستطاع.
إن هذا الزخم الكبير من العمل السياسي والإنساني والجهد المضني الواضح للعيان، يتطلب إدامته والعمل على تعزيزه من قبل الهيئة. وإذا كانت بعض القوى السياسية الدولية والإقليمية قد وضعت القضية العراقية على رف القضايا المُنجزة، أو في خانة القضايا المنسية، أو المتناسي عنها بسبب مصالح سياسية واقتصادية معروفة في العلاقات الدولية، فإن المهمة الملقاة على عاتق هيئة علماء المسلمين اليوم باتت أصعب وأعقد بكثير. فهي تكاد تكون الوحيدة اليوم التي تحمل القضية. وعليه بات الحفاظ على جسمها السياسي أولوية، كما أن صيانة خصوصية تفاصيل مواقفها، وعدم التبرع بها نزولا لرغبة هذا الطرف السياسي وذاك، بهدف جلبه إلى مائدتها السياسية، لصنع موقف جامع ليس مطلوبا. فلا مانع من الوصول إلى موقف موحد في العناوين الرئيسية مع بقاء الخصوصية في العناوين الثانوية.
إن الحصار الذي باتت تفرضه الدول الأخرى على كل نشاط عراقي معارض للعملية السياسية يمكن فهمه، فالدول لديها مصالح هي التي تقود سياساتها، والنظام الذي يستثمرون فيه اليوم قد يتركونه غدا، هذه هي المعادلة السياسية التي تقوم عليها العلاقات الدولية، لكن من المهم أن يبقى أصحاب القضية ملتزمون بقضيتهم، لان حركة التاريخ تبقى تحمل القضايا والملفات الخطيرة وتضعها على الطاولة من وقت إلى آخر. إن الاتفاق مع القوى الوطنية الأخرى على موقف موحد، من أجل قضية وطنية كبرى كالقضية العراقية، هي وحدها خطوة في غاية الاهمية. لكن ديمومة ذلك وتطويره ونقله إلى واقع ملموس هو التحدي الأكبر.
المصدر: القدس العربي