بقلم: ولاء سعيد السامرائي
تستمر تظاهرات أصحاب السترات الصفر في شوارع باريس والمدن الفرنسية للسبت الخامس عشر على التوالي، مصرّين على نيل حقوقهم وتنفيذ الحكومة مطالبهم المشروعة. وبعد ثلاثة أشهر، تتطور التظاهرات التي خرجت بدايةً بشكل عفوي ضد ارتفاع أسعار المحروقات والضرائب إلى مطالب سياسية متقدمة جدا تتعلق بالشكل الديمقراطي للحكم الذي تراه غالبية الفرنسيين اليوم حكما نخبويا، غير ديمقراطي، ولا يلبي مطالب الشعب، في حين أن معنى الديمقراطية هو حكم الشعب، ويعلل أصحاب هذا الرأي بأن من يتخذ القرارات الخاصة في فرنسا، ومنذ عدة عقود، هو الاتحاد الأوروبي، لا البرلمان الفرنسي ونوابه المنتخبون. ومن جهةٍ أخرى، فإن قرارات عديدة اتخذتها النخب فقط، من دون العودة إلى الشعب، ليس ذلك فحسب، بل إن ذوي السترات الصفر يلقون بوجه من يريد أن يسمعهم من الساسة بأن ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي لم يبق معنىً لا للديمقراطية، ولا للسيادة، فعن ماذا تتكلمون؟ ولعل شيطنة تظاهرات السترات الصفر في فرنسا ومواجهتها بالعنف هي المثل الواضح والجلي لكل ما يصيب الحركات الاحتجاجية التي يموج بها العالم، سواء في الديمقراطيات، مثل فرنسا أو في العالم العربي، ومنه العراق، ففي كل يوم سبت، ومنذ بداية التظاهرات، تنتشر قوات الشرطة بشكل واسع في كل مكان، لتواجه المتظاهرين بـ “الفلاش بال”، وهي إطلاقات ممنوع استخدامها على الجسد، سببت فقدان عدد كبير أعينهم أو أطرافهم. ولعدة أسابيع، لم يتناول الإعلام ما جرى للمدنيين من عنف، ولا حتى لمنتسبي الشرطة، بل كان همّ القنوات المختلفة، وخصوصا التابعة للمليارديرية أصحاب كل أجهزة الإعلام في فرنسا، تشويه التظاهرات، ودعم السياسة الأكثر ليبراليةً في تاريخ فرنسا، للرئيس إيمانويل ماكرون، إذ نعت المتظاهرون تارة بالعنفيين والمخربين واللصوص، وأخرى بالأميين. وهدف الحكومة وأحزابها ونخب مثقفيها
“قال أحد الصحافيين الكبار ضاحكاً: “اليوم، السترات الصفر معادون للسامية، وغداً سيقال إنهم يعتدون جنسياً على الأطفال”” |
شيطنة هذه التظاهرات، ونزع الشرعية عنها، ودعم الفرنسيين لها، وخصوصا إرهاب المثقفين، لكي لا يتخذوا موقفا إيجابيا، يعطيها ثقلا ودعما فكريا كما في تظاهرات 1968التي هزّت كل أوروبا، حتى تبقى هذه التظاهرات لطبقة “غير متعلمة”، كما وسموها منذ البداية، وما محاولة الكاتب الصهيوني، آلان فينكيلكراوت، الأسبوع الماضي، استفزاز المتظاهرين من أصول عربية، لتشويه التظاهرات، إلا رغبة منه، سبق أن قام بها خلال مظاهرات دعم الحقوق الفلسطينية، وذلك لوصم الحركة بمعاداة السامية وإفزاع الناس من تهمة الإرهاب الفكري الشامل، وفضهم عنها، خدمة لحكومة الرئيس ماكرون، الذي وبمكالمة تلفونية من رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، حسب القناة الصهيونية “بي إف إم”، قد أعاد تسويق فكرة حكام تل أبيب، ولوبياتهم في فرنسا، لجعل معاداة الصهيونية معاداة للسامية، وكان برنامجه الانتخابي قد تضمنها، وأسقطها الفرنسيون.
أمام هذا الإعلام الصاخب ضد السترات الصفر، قال أحد الصحافيين الكبار ضاحكا: “اليوم، السترات الصفر معادون للسامية، وغدا سيقال إنهم يعتدون جنسيا على الأطفال”.. هذه الأساليب المخادعة لقنص كل مناسبة من نجوم المشهد الباريسي، الداعمين للاحتلال الصهيوني، تنكشف أكثر وأكثر للفرنسيين، بفضل الوعي السياسي المتقدم، حيث فهموا أنها مجرد استفزاز وخدعة إضافية من خدع بعض النخب التقليدية المستفيدة. ولكن وسائل الضغط على الحكومة لم تعد تقتصر على التظاهر، فتنسيقيات السترات الصفر تتهيأ لتنظيم إضراب عام يشل كل مرافق الحياة، ومنع كبريات المصافي من التصدير، بحسب أحد الناشطين، واغلاق منافذ التصدير لشل اقتصاد البلد. ويقول أحد الناشطين في السترات الصفر “هذه التظاهرات مفيدة في بداياتها، ولكن علينا أن نشل حركة التصدير والاستيراد، حينها فقط ستستجيب الحكومة لمطالبنا”.
كما السترات الصفر الفرنسية، تسير تظاهراتٌ في البصرة التي اغتيل من بين صفوفها أكثر من ثلاثين شابا على يد القوات الحكومية العراقية، ومليشياتها القمعية، بعضهم غدرا لمنعه من تصدّر التظاهرات. يتجه شباب البصرة، وبعد رفض المطالب الأساسية لحاجات السكان الملحة منذ الصيف الماضي، إلى مطالب سياسية لا تتعلق فقط بالمدينة، بل بكل مدن الجنوب العراقي الذي تخرج فيه التظاهرات منذ سنوات، فقد تطورت شعارات المتظاهرين في البصرة إلى شعارات وطنية موحدة، تطالب بأكثر من توفير الخبز والوظيفة للشباب العاطل، وهذا هو الاتجاه الصحيح نحو احتجاجات شعبية واسعة، تعم المدن، وتعمل من أجل تخليص الشعب العراقي واستعادة زمام أمره، وطرد المحتلين من أرضه، وهي معركة كبيرة لمواجهة خصوم شرسين، لكن انتصار الشعوب وتحرّرها لا يقاس بالعدة، ولا بتقنية السلاح العالية، بل بقدر
“تطورت شعارات المتظاهرين في البصرة إلى شعارات وطنية موحدة، تطالب بأكثر من توفير الخبز والوظيفة للشباب العاطل” |
قضية الإنسان نفسه، وقضية الشعب العراقي اليوم وشبابه وشعبه هي قضية وجود، لن يتراجع عنها إلا بالتحرير. ولذلك فإن تجاوز الخطاب الطائفي والمناطقي الذي ساد أول الأمر، واعتماد الشعارات الوطنية الموحدة، من شأنه أن يدعم حركة الاحتجاجات، ليس في البصرة فحسب، بل تصل بها إلى الشمال الذي أرسل شبابه رسائل تضامن ودعم، وإلى مدن غرب العراق الذي عانى من إبادة جماعية بحجة الإرهاب، فغالبية الشعب، إذا لم يكن كله، يصبو إلى رؤية رجاله يرفعون شعار “العراق مرجعيتنا الوحيدة” بوجه حكومة المنطقة الخضراء. ولذلك أمام حركة الاحتجاجات في البصرة ومدن الجنوب العراقي فرصة تاريخية، للعمل على لم شمل الشعب العراقي، من زاخو إلى البصرة، وتضميد جروحه التي أثخنه فيها الاحتلالان، الأميركي والإيراني، وعمليته السياسية شتى أسلحته التدميرية. وحسنا فعل المتظاهرون قبل أيام من رفع شعار الوحدة لرص صفوفهم، ومواجهة اغتيالات المليشيات الحكومية، والتابعة لجارة العراق التي تذيق أهل البصرة أنواع العذاب، كما أن استجابة مزيد من رجال العشائر وسكان ضواحي البصرة للخروج في التظاهرات ليوم الجمعة أعطى شعبية متزايدة للتظاهرات. وكذلك خروج المواطنين متّحدين ضد الخوف الذي ينشره المسؤولون الحكوميون في المدينة، وتهديدهم بالعقاب، وملاحقة أي متظاهر ينتقد الأداء الحكومي وموظفي العملية السياسية.
لقد لخص مواطن فرنسي، في جملة معبرة، التظاهرات بالقول: لقد أرجعوا إلينا هويتنا الفرنسية. وكتب على لافتة: نتظاهر من أجل استرجاع الحرية والمساواة… وأكثر من أي وقت مضى، تبدو المواجهة واضحةً بين الشعوب ونظام اقتصادي عالمي احتكاري جشع، يفرض قراراته المختلفة في الحرب والسياسة والاقتصاد، وحتى في المجال الاجتماعي والتربية، فقد خرجت السترات الصفر من البصرة عام 2015، ويشاهدها العالم في شوارع أوروبا تنتقل وبسرعة من باريس إلى هولندا وإلى بريطانيا وبلجيكا. والشعب الفرنسي الذي أنجز أكبر ثورة في التاريخ لن يتراجع عن المطالبة بالتغيير ونيل الحقوق، وهو من يعطي النخب والعالم درسا في معنى الديمقراطية. ولذلك سيستعيد، عاجلا أم آجلا، حكم الشعب ومبدأ المساواة الذي حفرته ثورته قبل مائتي عام في وجدانه وثقافته، ومثلها السترات الصفر في الجنوب العراقي التي تطاول منذ أشهر، وتنسج معركتها مع أعداء الشعب العراقي يوميا لا تأبه بما تقدّمه من قرابين من أجل العراق وشعبه، ليجد الحرية، ولتتطهر أرضه من دنس الاحتلال وعمليته السياسية.
المصدر: العربي الجديد