بقلم: د. ماجد السامرائي
في العراق لم يتم البدء بمشروع إعادة بناء الدولة بعد إسقاط نظام صدام حسين، فما حصل هو أن أحزاب الإسلام السياسي هيمنت على العراق بمعاونة ودعم القوتين النافذتين، واشنطن وطهران، وكان بإمكان الوسائل الديمقراطية الشرعية الجديدة، الدستور والانتخابات، أن تشكّل منطلقا لبناء نظام سياسي ديمقراطي يحمي أمن المواطنين ويضع قواعد الصلة بين الدولة الجديدة والشعب، ولكن ذلك لم يحصل لأن من دخلوا بوابات الحكم الجديد انشغلوا بنهم تقاسم المغانم لأنهم جياع الجاه والمال والسلطة، فقاموا بتصفية أو إزاحة عشرات الألوف ممن يصفونهم بالأعداء البعثيين، وبالزج بالأميين والجهلة والمدججين بسلاح الحقد والكراهية في جميع مرافق الدولة، فأصبحت الفوضى المدمرة هي عنوان مرحلة امتدت لخمسة عشر عاما.
حماية حكم تلك الأحزاب كان يتطلب إبقاء معارك الخصوم المتنوعة مشتعلة دائما، معتقدة أن ذلك سيبعدها عن المساءلة الشعبية والتاريخية، ولأنها لا تعترف بقوة التاريخ تبقى المساءلة الشعبية رهينة بمدى قدرتها على التلاعب بالمظاهر الديمقراطية والانتخابات معتقدة أنها الحامية من المصير القاسي لمن يكون بعيداً عن هموم وقضايا الشعب. حينما سئل هتلر عن حقيقة تمثيله للشعب الألماني قال إن “فخري هو أنني لا أعرف رجل دولة في العالم له الحق أن يدعي تمثيل شعبه أكثر مني”.
زعامات الأحزاب الإسلامية التابعة فسدت وأفسدت، وتوهمت أن التبعية لطهران عنصر قوة. العروبيون يواجهون جميع حملات التشويه من قوى الإسلام السياسي الشيعي بصلابة تتعزز بمساندة شعب وسط وجنوبي العراق في وجه قوى الفساد والظلم، والحكومة في دائرة ضيقة من الخيارات لأن أزمات العراق كبيرة لا يحلها مجرد توفير الكهرباء والصحة والتعليم، رغم أنها مرتكزات الانطلاق بمشروع الدولة الجديدة الغائبة لحد اللحظة.
ملفات خطيرة مثل المخدرات والاتجار بالبشر وقصة أطفال العراق اليتامى، يتم التعتيم عليها في الإعلام الحزبي والحكومي العراقي. لأنها تكشف عن مدى التخريب المدبر لإبقاء العراقيين ضعفاء لا يواجهون قوى الفتك والتدمير
الأزمة الخطيرة هي فقدان عناصر بناء هذه الدولة المتمثلة بنظام حكومي قوي يوفر العدالة وينشر القانون الصارم دون خوف، والعراق غارق في فوضى صنعتها الأحزاب الإسلامية التابعة لدرجة التعتيم على أي مبادرة أولوية للتغيير والإصلاح قد تقوم بها بعض القوى الخيرة، ودائما ما تجهز القوى الفاسدة الشريرة أغطية لتعويم الأزمات مثل تحويل نتائج معركة الحرب على داعش إلى سلة من المكاسب السياسية، وليست واحدة من عناصر وحدة العراقيين والانتقال إلى معركة بناء ما دمرته الحرب على المستويين المادي والمعنوي، والتقاط الدروس عن أسباب ما حصل والبدء بالتغيير الجدي في مرتكزات النظام السياسي وملاحقة رموزه الفاشلة والمتورطة بالفساد. لكن قوى الإسلام السياسي التابعة استقوت بنفوذ نظام ولاية الفقيه الإيراني لمنع ذلك، وقمعت المتظاهرين بالسلاح في مدن الجنوب وخاصة البصرة، وزجت ببعض الشباب في السجون. وهي ترعب الجمهور العراقي، وخاصة الشيعي منه، بقتل من يتفوه بنقد المتسببين في خراب العراق، مثلما حصل للكاتب من مدينة كربلاء، علاء المشذوب.
الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران ورغم مظاهر القوة المفتعلة فإنها تعيش قلق مصيرها المرتبط بالوضع الإيراني المحاصر حاليا في العراق. وهذه الأحزاب لا تمتلك مثالا واحدا يشفع لها أمام الشعب العراقي. أليست هي المسؤولة عن مظاهر الانهيارات الكبرى في حياة هذا الشعب العريق الذي ظل متماسكا لكنهم استهدفوا قلبه، الشباب، وعناصر حياته وهي تتجاوز قصة الكهرباء والصحة والتعليم رغم أهميتها، إلى عملية تفكيك وهدم كبيرين في حياة المجتمع العراقي.
وأبرز الأمثلة الحالية ثلاثة ملفات خطيرة هي المخدرات والاتجار بالبشر وقصة أطفال العراق اليتامى، هذه الملفات يتم التعتيم عليها في الإعلام الحزبي والحكومي العراقي. ولكل ملف من هذه الملفات تفصيلات مرعبة تكشف عن مدى التخريب المدبر لإبقاء العراقيين ضعفاء لا يواجهون قوى الفتك والتدمير، ولكي ينشأ جيل من ستة ملايين طفل يتيما مكسور الجناح وفاقدا لقدرات الإنتاج والعطاء ويصبح عنصرا عدائيا وحقلا خصبا للتطرّف الاجتماعي والسياسي.
أخبار المخدرات أصبحت في العراق أخبارا عادية، مثل أخبار الطقس والرياضة تتناقلها القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتقدّم بعض الأخبار مجتزأة، لكنها تكشف في مناسبات عديدة عن همة رجال الأمن والشرطة المشتغلين في حماية حدود بلدهم العراق ولا يترددون من إعلان المصدر الإيراني لتلك المخدرات، ومعروف تورط بعض أبناء المسؤولين الكبار بهذه الجريمة المنظمة ضد الشعب، كما أعلن أخيرا عن انتشار هذا الوباء في مدارس كثيرة ببغداد.
علما بأن عراق ما قبل 2003 كان خاليا من المخدرات ومن شبكاته تماما، لأن القوانين كانت صارمة وقوية. الملف الذي تم تداوله في الفترة الأخيرة غريب عن أهل العراق وهو الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية بعد الكشف في بغداد عن ثلاث شبكات خطيرة لها فروع وامتدادات داخلية وخارجية، مدعومة من جهات حكومية حسب المصدر العراقي لمكافحة الاتجار بالبشر، وتشكّل مخيمات اللاجئين للمحافظات الغربية مصدرا لتلك العصابات، حيث تتم سرقة الفتيان والفتيات وتوزيعهم باتجاهات مختلفة كالتسول والدعارة بالنسبة للفتيات، وهناك فيديوهات صادمة بذلك.
قصة الأطفال اليتامى وعددهم 6 ملايين، رغم أن الدوائر الرسمية لا تعترف سوى بـ700 ألف خصصت لهم 22 دارا لا تتسع لأكثر من العشرات وتحت ظروف سيئة، وهؤلاء اليتامى يشكلون الصفحة الأكثر سوادا في وجه مدعي الشعارات الإسلامية. لقد ظهرت قبل أيام على إحدى القنوات الفضائية ناشطة عراقية شابة تعمل في مجال حقوق الإنسان كشفت بشكل علمي موثق حقيقة المأساة الكبرى التي تواجه هذا الجيل المحطم المحروم من الرعاية بغياب الحكومة المسؤولة الأولى، وذكرت أنها تعمل مع مجموعة من زميلاتها منذ عدة سنوات في إعداد برنامج إنقاذي تساهم فيه الحكومة والمنظمات الإنسانية المحلية والدولية من أجل تأهيل الفتيات في محالات خدمات التمريض أو الصناعات الحرفية وغيرها، لكن مشروعها لم يستمع إليه أحد رغم ذلك تقول إنها وزميلاتها سيواصلن الطريق.لم تصدمني حقيقة هذه الشابة العراقية المتشبثة بإنقاذ أهلها، بل زادت من ثقتي بأن العراقيين قادرون على إعادة بناء وطنهم لو سمح لهم الفاسدون بذلك. لكن دولة الفشل والفساد في العراق تتفكك الآن وستتلقى الدفعة الأخيرة على يد أبناء شيعة العراق المتمسكين بوطنهم، فلا تبتئسوا ولا تصدقوا ما تشاهدونه من مظاهر الكبرياء الفارغ بالسلطة والمال والسلاح، ففصول الخديعة الكبرى تمزقت أوراقها.
المصدر: العرب اللندنية