بقلم: بهاء العوام
يخوض الأكراد دفاعا مستميتا كلما ظهر مستجد يمس مناطقهم شمال سوريا، ومثل هذه المستجدات ربما هو فقط ما بات يدفعهم إلى بحث تطورات أزمة البلاد.
بتعبير آخر، لو عاشت مناطقهم عقودا طويلة كقاعدة عسكرية أميركية دون أي بطاقة تعريف، فلا ضير طالما أن هذه المناطق تدار بطريقتهم.
ربما هم محقون في ذلك، وفي مواجهة نقدك، سيصفعونك بالكثير من الحجج المنطقية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ماذا فعلت لهم سوريتهم قبل الأزمة؟ ماذا فعلت المعارضة في مناطقها طوال سنوات الثورة؟ من كان سيحمي الأكراد من تنظيم داعش لو أنهم لم يفتحوا مناطقهم أمام الأميركيين ولم يحملوا أسلحتهم في مواجهة التنظيم الإرهابي؟ ما الضير من تشكيل أقاليم ذاتية الإدارة ضمن دولة سورية؟
لا نحاكم وطنية الأكراد هنا، فكلنا سوريون ولنا حق الاختلاف في قراءة الأزمة في أسبابها ونتائجها، كما أنه وسط كل هذه الفوضى التي تعيشها المنطقة يحق لكل طائفة أن تنظر إلى مستقبلها في بلاد تئن تحت نير احتلال مباشر من أربع دول، وما الحديث عن الوحدة الوطنية اليوم إلا خيال لن يقارب الواقع قبل جيلين على الأقل بعد انتهاء الأزمة.
مصاب الأكراد هو مصاب كل الأقليات في سوريا، ولكن عمليا حلم الدولة والاستقلال والوحدة العابرة للحدود مع أبناء الجلدة الواحدة، يكاد لا يظهر في أدبيات وممارسات الأقليات مقارنة مع الأكراد.
ما ألمح له، جهرا وليس سرا، هو ذلك الانتماء المعلق للأكراد في الشمال السوري إلى عبدالله أوجلان وحلم الدولة الكردية. انتماء تشتم رائحته في كل كلمة أو صورة تأتي في سياق رد فعلهم إزاء أي قضية تمس مناطقهم أو زعيمهم.
كل طائفة أو أقلية أو قومية في سوريا عانت من الانكفاء في ظل حكم الأسد، وباتت تحتفل برموزها التاريخية من خارج الحدود أو داخلها لأن الحاضر لم يحمل لها من القادة من يمكن أن تتباهى به من جهة، ولم يمنحها فرصة الانصهار داخل دولة وطنية تذوب تحت رايتها هويتها المناطقية أو الدينية أو القومية من جهة أخرى.
نعم ببساطة، كل ذلك بسبب حكم البعث، كل ذلك بسبب حكم آل الأسد الذين أفرغوا البلاد من السياسة ودفعوا بالسوريين نحو انتماءات ضيقة.
نظريا مصاب الأكراد هو مصاب كل الأقليات في سوريا، ولكن عمليا حلم الدولة والاستقلال والوحدة العابرة للحدود مع أبناء الجلدة الواحدة، يكاد لا يظهر في أدبيات وممارسات الأقليات والقوميات الأخرى في البلاد مقارنة مع الأكراد.
الكثير من الأكراد يعتقدون بامتلاك كل المقومات المطلوبة للدولة الكردية، وما تأخر قيامها إلا مؤامرة من العرب والأتراك. وبغض النظر عن صحة هذا الرأي في تاريخيته وشرعيته ومقوماته ومعوقاته، فإن ما يهمنا هو ليس أن يستقل الأكراد أم لا، وإنما كيف يخطط الأكراد للاستقلال، هل يسلكون في ذلك طرقا لا تحمل ضررا، أم سيبنون دولتهم على مؤامرات وانتهاكات لحقوق بقية السوريين؟
الكثير من السوريين يعارضون فكرة الأقاليم المستقلة على غرار كردستان العراق. يعارضون أن يكون هناك جزء في سوريا يحتاج فيه السوري إلى “فيزا” أو كفيل لزيارته والعيش فيه .
لا شك أن تجربة الإدارة الذاتية في الشمال السوري تنطوي على نقاط إيجابية كثيرة ولكن هذه التجربة، وخاصة في شقها العسكري والأمني، شابتها الكثير من الممارسات السلبية، فلم يكن الأكراد ملائكة رحمة هبطت من السماء على المناطق التي سيطروا عليها، كما أنهم مارسوا ما يمكن تسميته بديمقراطية الأقوى في إشراك العرب وبقية القوميات في إدارة مناطق الشمال.
قبل بضعة أيام قال قائد قوات سوريا الديمقراطية إن الحوار مع دمشق مشروط باعتراف دستوري بالإدارة الذاتية، وبتعبير آخر اعتراف بإقليم كردي مستقل على غرار العراق، وهو كما يقولون أضعف الإيمان وأقل ما يمكن أن يجنيه الأكراد من هذه الفرصة التاريخية التي يمكن ألا تتكرر أبدا. فبهذا الاعتراف يمهد الأكراد لدولتهم المعلقة ويمنعون سيطرة أي حكومة سورية مقبلة على منطقة “روجافا” كما يسمونها، لتكون دويلة داخل دولة.
اللامركزية الإدارية وتجربة الإدارة الذاتية، أفكار مقبولة وضرورية في إطار دولة سورية علمانية يحفظ القانون فيها حقوق الجميع وواجباتهم.
ثمة الكثير من السوريين يعارضون فكرة الأقاليم المستقلة على غرار كردستان العراق. يعارضون أن يكون هناك جزء في سوريا يحتاج فيه السوري إلى “فيزا” أو كفيل لزيارته والعيش فيه، يعارضون سيطرة الأكراد على مناطق شرق الفرات بحجة أنهم طردوا داعش منها، يعارضون أن يكون للأكراد أو لأي قومية أو أقلية أو ديانة جيش مستقل، يعارضون أن يستيقظوا يوما على خبر تنظيم أكراد سوريا لاستفتاء من أجل الاستقلال ومن ثم يمضون أياما وهم يراقبون نتائج هذا الاستفتاء وكأنه يحدث في دولة أخرى، يعارضون أن تُزيّن الساحات العامة في مناطق الأكراد صور عبدالله أوجلان وكأنه الفاتح الذي أعاد إحياء الدولة الكردية الكبرى.
إذا أراد الأكراد الاستقلال فبوسعهم أن يستغلوا هذه الفرصة ويطلبوا من الأميركيين منحهم دولة شمال شرق الفرات وليس في كامل المنطقة، أو أن ينظموا تحت أعلامهم استفتاء على الاستقلال في المحافظات التي يكثرون فيها دون أن تشمل تلك التي سيطروا عليها لاحقا، وإن ظفروا بالأصوات الكافية فليستقلوا.
بالنسبة لعفرين يدرك أكراد الشمال السوري أنها في أحسن الأحوال ستعود للدولة السورية، إذا لم يكن مصيرها كمصير لواء إسكندرون. أما تحريرها من الاحتلال التركي عبر قوات وحدات حماية الشعب فهو يحتاج إلى دعم أميركي كبير سيضع واشنطن في صدام مع الروس والأتراك ويغير من خططها للانسحاب من سوريا.
خلاصة الأمر هو أن اللامركزية الإدارية وتجربة الإدارة الذاتية، وليس الإقليم المستقل، أفكار مقبولة وضرورية في إطار دولة سورية علمانية يحفظ القانون فيها حقوق الجميع وواجباتهم، ويكون لها جيش واحد ورئيس واحد وبرلمان واحد وحكومة واحدة، فإذا كان الأكراد يؤيدون ذلك فليعلنوه أرضية لحوارهم مع دمشق أو مع أي طرف معني بالأزمة وسيجدون الكثير من السوريين يلتفون حولهم.
مصاب الأكراد هو مصاب كل الأقليات في سوريا
المصدر: العرب اللندنية