بقلم: صادق الطائي
تعرض أوس الخفاجي للاعتقال يوم 7 فبراير 2019 وهو أحد قيادات الحشد الشعبي، فهو رجل دين شيعي وزعيم ما يعرف بميليشيا «قوات أبو الفضل العباس» ، وقد تم الأمر بعد مداهمة مقر فصيله في منطقة الكرادة في قلب بغداد، إذ داهمته قوات مشتركة من أمن هيئة الحشد الشعبي وعمليات بغداد، وأغلقت المقر بعد اعتقال الخفاجي ومجموعة من مساعديه.
المثير في ما تسرب للإعلام هو أن عملية المداهمة طالت أربعة مقرات وصفت بـ»مقرات وهمية تدعي ارتباطها بهيئة الحشد الشعبي»، ما أثار سخرية العديدين واستغرابهم. واستهجن المراقبون الادعاء بأن أوس الخفاجي يدعي الارتباط بالحشد الشعبي، فالمعروف أنه كان وعلى مدى سنوات أحد قيادات الحشد المعروفة .
تداعيات مجموعة أحداث وتصريحات للخفاجي ربطت مع بعضها بعضا لتصل بالمراقب إلى أن اعتقاله تم بناءً على هذه التصريحات، أولها تصريحه الناري لإحدى المحطات الفضائية العراقية، هاجم فيه التدخلات الإيرانية في العراق، وأشار إلى لقاء وزير الخارجية الإيراني بعدد من شيوخ العشائر العراقيين في زيارته الاخيرة للعراق، صرح فيها الوزير من بغداد بالقول: إن على الامريكيين الخروج من العراق، وأضاف أن الامريكيين سيخرجون وسنبقى، فكان تصريح أوس الخفاجي غير متوقع من شخصية بمثل وضعه إذ قال: «الامريكان سيخرجون والايرانيون سيخرجون أيضا، وسيبقى العراق للعراقيين». وأشار إلى وجوب الكف عن تحميل العراقيين منة مساعدة ودعم إيران للحشد الشعبي، إبان حقبة قتال «داعش»، وأضاف «إننا شكرناهم أكثر من مرة وكفى، هل سنقضي عمرنا نقدم لهم الشكر، لقد آن الأوان لنلتفت لمصلحة العراق».
وأضيف لهذا الموقف العنيف، تصريح آخر للخفاجي تزامن مع اغتيال مجهولين للروائي العراقي علاء مشذوب في كربلاء، وهو أحد افراد عشيرة خفاجة التي يتحدر منها أوس الخفاجي، الذي قال من مجلس عزاء قريبه، إن سبب اغتيال مشذوب موقفه المعادي للتدخلات الإيرانية في العراق، وإن من اغتاله هم عملاء إيران في العراق. هذا التصريح كما اعتقد البعض هو القشة التي قصمت ظهر العلاقة المميزة بين مؤسس وقائد ميليشيا «لواء ابو الفضل العباس» الذي أنشأته إيران في سوريا، فكيف حدث الأمر؟ وما هي التداعيات الحقيقية التي تقف وراء هذا التصعيد؟ ربما يعود الأمر إلى جذور قد تبدو بعيدة إلا أنها ذات تأثير عميق وحقيقي في فهم الأزمة الحالية، فالشيخ أوس الخفاجي، من ضمن مجموعة الشباب الذين تحلقوا حول المرجع محمد الصدر في منتصف التسعينيات، فقد جمع رجل الدين المتحدر من عائلة معروفة في العراق حوله ثلة من شباب المدن التي تعاني التهميش في العراق مثل، أحياء مدينة الثورة في بغداد والحيانية في البصرة وبعض المدن الهامشية المنسية في جنوب العراق، وحاول أن يخلق منهم وبهم حركة ثورية جديدة تهز هدوء المدارس الدينية التقليدية المعروفة باسم (الحوزة العلمية) في النجف إبان حراكه بعد انتفاضة 1991.
شاهد الشيوخ مقتدى الصدر، زعيمهم السابق، وقد انخرط في العملية السياسية، وأصبح بارعا في اللعب على توازناتها، وهي اللعبة التي لا يجيدونها، ففضل بعضهم الانزواء في ظل الصدر، بينما انتفض صقورهم وبحثوا عن حلول لوجستية وفرتها لهم الصديقة اللدود إيران
طرح السيد محمد الصدر أفكارا غير مطروقة سابقا مثل، التأكيد على المرجعيات العراقية، والوقوف بوجه المرجعيات غير العربية كالايرانيين والباكستانيين والاتراك. المتحلقين حول السيد محمد الصدر، الذي بات يعرف مبكرا بالإمام، أو الولي الفقيه بالنسبة لأتباعه الذين توزعوا على فصيلين، الأول تميز علميا في العلوم الشرعية، وتمت عملية إعدادهم ليصبحوا مراجع تقليد في المستقبل، وربما كان أبرزهم ابنه الاكبر مصطفى الصدر ومحمد اليعقوبي وفرقد القزويني وعلي سميسم، بينما تميز بعض طلبة الصدر بالجانب العملياتي أو الإجرائي العملي، وكان هو من يكلفهم بمهمات إجرائية لا تحتاج الكثير من التبحر بالعلوم الفقهية، بل يكفيهم انهم أنهوا مرحلة الدراسات الأولية في الحوزة، والمعروفة بمرحلة دراسة السطوح ولبسوا الزي الديني وتفرغوا لتنفيذ هذه المهمات، ويقف في مقدمتهم ولده مقتدى الصدر، مع مجموعة مهمة هي التي التفت حول السيد مقتدى في بداية إطلاق مشروعه السياسي، بعد إطاحة نظام صدام، بينما انفرط عقد الفصيل الأول في مشروعات سياسية ودينية موازية لمشروع مقتدى الصدر مثل، حزب الفضيلة.
ومن الشيوخ الشباب كان عبد الهادي الدراجي وقيس الخزعلي وأوس الخفاجي وغيرهم، والملاحظ على هذه الشريحة من رجال الدين الشباب تحدرهم من طبقات اجتماعية فقيرة، كما إنهم تلاميذ مميزون في مدرسة محمد الصدر في الإسلام السياسي، وإنهم رجال تنفيذ لا تخطيط ، وإنهم شيوخ حركيون وليسوا رجال دين بالمعنى الفقهي.
بعد تعرض التيار الصدري وذراعه العسكري (جيش المهدي) للضربات المتوالية من الامريكيين ومن حكومة المالكي في ما عرف بصولة الفرسان عام 2008، واضطرار مقتدى الصدر لتجميد نشاطات جيش المهدي، أصبح هؤلاء الشيوخ في موقف حرج، فهم يفضلون الحراك السياسي وتحديدا السير على نموذج حزب الله اللبناني، الذي مثل لهم أيقونة العمل الجهادي، وتأثروا بتنظيمه وفاعليته، لكنهم كرهوا ارتباطه الايراني، فوقع العديد منهم في منطقة انعدام الوزن، وخدمهم اعتقال القوات الامريكية للعديد منهم بتهمة تنفيذ هجمات ضد قوات التحالف المتواجدة في العراق، وإيداعهم معتقلات ذات اسماء رنانة مثل سجن بوكا، وهذا الامر منحهم تعميدا ثوريا سيستثمرونه في نشاطاتهم المستقبلية. بعد خروجهم من المعتقلات الامريكية، شاهد هؤلاء الشيوخ مقتدى الصدر، زعيمهم السابق، وقد انخرط في العملية السياسية، وأصبح بارعا في اللعب على توازناتها، وهي اللعبة التي لا يجيدونها، ففضل بعضهم الانزواء في ظل عطف السيد الصدر ومنحه والتفرغ للدراسة الدينية، بينما انتفض صقورهم وبحثوا عن حلول لوجستية وفرتها لهم الصديقة اللدود إيران مع اندلاع الأزمة السورية، إذ تشكلت فصائل حصلت على التدريب والاسلحة والأموال والدعم السياسي في الحرب الأهلية السورية، فزجوا انفسهم في الحرب الاهلية السورية إلى جانب النظام ضد المتطرفين الإسلاميين السنة بدعوى حماية المراقد الشيعية في سوريا.
عندما سقطت المدن العراقية تباعا بيد تنظيم الدولة (داعش) كانت المليشيات جاهزة بهيكلتها وأسلحتها وتنظيمها للدخول للمعركة، وتمثلت اللحظة المناسبة في استثمار فتوى السيد السيستاني التي عرفت بفتوى الجهاد الكفائي
مع التعميد بنيران ودماء المعركة السورية وبعد حوالي سنتين أصبح هؤلاء المشايخ مأهلين للعب الدور العراقي، فظهر على الساحة العراقية الشيخ قيس الخزعلي وتنظيمه «عصائب اهل الحق» المنشق عن التيار الصدري، والشيخ أوس الخفاجي المنشق عن العصائب، بعد أن شكل ميليشا خاصة في سوريا حققت سمعة في الحرب السورية هي (لواء ابو الفضل العباس). وحولت هذه الفصائل ولاءها المرجعي من المرجعيات العراقية إلى مرجعية على خامنئي الولي الفقيه في ايران، وقد بدا ذلك غريبا عن منطلقاتهم العقائدية الاصلية.
عندما سقطت المدن العراقية تباعا بيد تنظيم الدولة (داعش) في يونيو 2014 كانت هذه المليشيات جاهزة بهيكلتها وأسلحتها وتنظيمها للدخول للمعركة، وتمثلت اللحظة المناسبة في استثمار فتوى السيد السيستاني التي عرفت بفتوى الجهاد الكفائي، وسرعان ما أطر عمل هذه الفصائل بإطار قانوني هو تشكيل «هيئة الحشد الشعبي» وتبعيتها للقائد العام للقوات المسلحة، وترأس هذا التشكيل فالح الفياض وهادي العامري وأبو مهدي المهندس، ورغم أن الثلاثة مقربون من إيران، إلا أن الكل يعلم أن أمر الحل والربط في هيئة الحشد الشعبي بيد رجل فيلق القدس المميز في العراق ابو مهدي المهندس.
بقيت هذه الميليشيات تقاتل بالتعاون والتنسيق فيما بينها من جهة، وبينها وبين القوات المسلحة والإسناد المقدم من التحالف الدولي، إلا أن حوادث واشتباكات عديدة وقعت طوال الثلاث سنوات من عمر الحرب على الإرهاب، مثل الاشتباك بين الفصائل المقاتلة، أو ضرب مروحيات التحالف، أو القتل بنيران صديقة في مؤشر على مدى التنافس والصراع الداخلي بين الفصائل الخاضعة لهيئة الحشد. وفي ديسمبر 2017 عندما أعلن حيدر العبادي النصر على تنظيمات «داعش» الإرهابية، سارعت بعض تشكيلات الحشد ومنها «قوات ابو الفضل العباس» إلى الإعلان عن حل نفسها، وصدر الأمر بتصريحات رسمية للاعلام، والهدف كما بيّن اوس الخفاجي زعيم هذه القوات في بيانه هو حصر السلاح بيد الدولة، إلا أن المراقبين اشاروا إلى أن سبب القرار هو نقص التمويل.
الا أن واقع السلاح على الارض بقي يخفي صراعا آخر، فقد انقسمت قوات الحشد بين سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر وبعض الفصائل التي أصبحت عائديتها تتبع العتبات المقدسة، وأصبحت تأتمر بأوامر ممثلي المرجعية، ومن هذه الفصائل « لواء ابو الفضل العباس» وقد بات يطلق على هذه الفصائل اسم الحشد الولائي أو المرجعي، تميزا لها عن الحشد الشعبي التابع للقيادة العامة للقوات المسلحة، وحددت مسؤولياتها بحفظ الأمن في المدن المقدسة، وفي الوقت نفسه ميزت نفسها عن الفصائل التي بقيت موالية أو قريبة من إيران والتي تحولت إلى فاعل سياسي عبر التجمع بكتلة الفتح السياسية التي فازت بحوالي نصف مقاعد البرلمان، وباتت تمثل لاعبا سياسيا رئيسا بقيادة هادي العامري معاون رئيس هيئة الحشد.
إذن أزمة اعتقال أوس الخفاجي في حقيقتها تعكس عمق الصراع المرتبط بشكل لا فكاك منه بتوزع الولاء بين مرجعيات النجف ومرجعيات قم، مؤطرا بترجمة ذلك إلى نفوذ وأموال وأسلحة وقرار نافذ على الارض، لا يمكن التنازل عنه، وتحويل ولاءات تتغير مع جولات الصراع في العراق.
المصدر: القدس العربي