بقلم: محمد قواص
تنقل إيران مراكزها العسكرية من مطار دمشق. تعلن مصادر روسية عن عزم لانتقال هذه المراكز إلى قاعدة “تي فور” في الريف الشرقي لحمص، والتي سبق أن تعرّضت لقصف إسرائيلي استهدف مراكز إيرانية داخلها. والمعنى أن طهران تعلن انتقال مراكزها العسكرية من منطقة مكشوفة أمام النيران الإسرائيلية إلى أخرى سبق انكشافها لتلك النيران. والمعنى الآخر أن إيران تستجيب للضغوط الإسرائيلية لإخلاء جنوب سوريا من أي تواجد إيراني، لكنها أيضا تعيد التموضع داخل سوريا تمهيدا لإخلاء كامل يجري إعداده بدأب واضح.
تكرر موسكو في الأيام الأخيرة أنها ليست حليفة لإيران في سوريا. تقصّد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، التذكير بذلك، فيما تولت منابر روسية أخرى العزف على نفس الإيقاع. سيأتي من روسيا من يجمّل هذا الكلام ويدوّر زواياه، لكن الثابت أن الأمر لم تعُد موسكو تواريه أو تخجل من الإفصاح عنه. تغضّ روسيا الطرف عن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية في سوريا. امتنعت عن تشغيل منظومة صواريخ أس 300 دفاعا عنها.
ويستعد رئيسها فلاديمير بوتين لاستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قريبا. بات رجل الكرملين القوي يعتبر أن انسحاب إيران من سوريا هو الشرط الضروري لتسويق رؤاه للتسوية السورية لدى المجتمع الدولي.
بدائل إيرانية تتضاءل
إيران ستغادر سوريا. الأمر مسألة وقت مهما أمعنت منابر طهران في المكابرة. سيكون لتلك المغادرة إخراج وخارطة طريق سيسهر بوتين على أن لا يقدّمها مجانا للعالم الغربي. سيعقد زعيم الكرملين قمّته مع نظيريه التركي والإيراني في نفس الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمر وارسو المفترض أنه موجّه ضد إيران.
لا تملك طهران إلا التظلل تحت السقف الروسي. تفقد كل يوم إمكانية التعويل على مظلة أوروبية، خصوصا أن الإفراج عن آلية الدفع الأوروبية لتسهيل التجارة مع إيران، ألحق بعد ساعات بموقف أوروبي جامع يُدين برنامج إيران للصواريخ الباليستية كما السلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
ستغادر إيران سوريا، أو على الأقل لن يعود لطهران ما كانت تملكه من نفوذ داخل هذا البلد. لا انخراط أممي في التسوية السورية ولا تطبيع عربي للعلاقة الكاملة مع نظام دمشق ولا ضخّ مالي غربي لإعادة الإعمار في هذا البلد قبل تحقيق هذا الإنجاز.
لا يعني ذلك أن إيران باتت خارج المعادلة في المنطقة، بل يعني أن شروط إيران الإقليمية باتت متقادمة في الشكل والأسلوب، وأن نظام طهران بات يحتاج، بمتشدديه ومعتدليه، إلى مقاربة أخرى تأخذ بالاعتبار ما طرأ من تبدّل على المزاج الدولي حيال “الاستثناء” الإيراني، ليس فقط من قبل الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، ولا من قبل الاتحاد الأوروبي المجمع على اتهام إيران بالوقوف وراء عمليات اغتيال إرهابية جرت على أراضيه، بل حتى من قبل دول حليفة كروسيا والصين، أو دول لطالما اعتمدت على النفط الإيراني وتخلّت عنه استجابة لعقوبات واشنطن ضد طهران.
إيران لم تعد قادرة على الاحتفاظ باحتلالها لأربع عواصم عربية. شوارع إيران تئن من وقع أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
من يراقب زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى العراق منتصف الشهر الماضي وإلى لبنان هذه الأيام، يستدرك التحوّل الجديد في مقاربة طهران لأمر “العواصم التي تسيطر عليها”.
لم يعد الجنرال قاسم سليماني واجهة الوليّ الفقيه الإيراني وطهران في التخاطب مع البلدان الساقطة داخل النفوذ الإيراني، ولم يعُد قائد فيلق القدس من يتقدّم للدفاع عن نفوذ إيران في المنطقة. لا يعني الأمر إنهاء لدور، بقدر ما يعني رفعا من شأن الواجهة التي يقودها الرئيس حسن روحاني على حساب الواجهة التي يديرها الحرس الثوري.
ينقل رجل الدبلوماسية الإيرانية المبتسم إلى بغداد ثم بيروت نسخة جديدة من طبيعة النفوذ الذي تتحرّى إيران المحافظة عليه داخل بلدان “الهلال الشيعي” وداخل ممرّها نحو البحر المتوسط، الذي يبدو واضحا أن إرادة دولية سياسية وجيواستراتيجية وعسكرية تعمل على قطعه في سوريا وإضعافه في العراق ومحاصرته في لبنان.
تبدو طهران في زيارة ظريف إلى بيروت أنها تحوّلت إلى بائعة سجاد طالت حياكته في إيران. يأتي الرجل ليزور البلد الذي أعلن الجنرال سليماني قبل أشهر سقوط برلمانه في يد قوى الممانعة وفوز حزب الله بـ74 نائبا. يصل إلى بيروت بعد نجاح طهران، وفق تقاطع المعلومات، في تعطيل تشكيل الحكومة الجديدة لأكثر من 8 أشهر.
يحلّ الرجل في العاصمة اللبنانية بعد ساعات على “إطلالة” أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، والتي كان مطلوب منه من خلالها تمهيد الطريق لعرض إيراني لضم لبنان إلى منظومة الدفاع والأمن الإيراني، من خلال الدعوة إلى تسليح الجيش اللبناني بالأسلحة الإيرانية.
يأتي ظريف إلى لبنان ليعيد إبلاغ الأميركيين من بيروت ما سبق أن أعلنه في النجف قبل أسابيع “ستمضون ونبقى لأننا أهل الأرض”. لا يهمّ أن تكون للولايات المتحدة قواعد وتواجد عسكري داخل العراق، ولا يهم أن ترصد واشنطن برنامجا تسليحيا قيمته أكثر من مئة مليون دولار للجيش اللبناني، فذلك في عُرف إيران تفصيل زائل.
بكلمة أخرى فإن طهران ترسل وزير خارجيتها للقيام بحملة علاقات عامة تصدّ بها زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى العراق وتلك التي قام بها مساعده ديفيد هيل إلى بيروت. تودّ طهران أن تدعي أنها الندّ الوحيد للنفوذ الأميركي في بلدان المنطقة.
لم تعد إيران قادرة على الاحتفاظ باحتلالها لأربع عواصم عربية. شوارع إيران تئن من وقع أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية. تصرخ شوارع البلد أن “لا غزة لا لبنان روحي فدا إيران”، فيما شوارع العراق سبق أن صدحت “إيران برا برا”.
وفيما كان من المفترض على إيران أن تجني ثمار استثمارها الدموي في سوريا، تكتشف طهران أن الجنرال سليماني الذي ذهب إلى روسيا في يوليو 2015 لاستدعاء تدخلها العسكري لمنع سقوط نظام الأسد، إنما “جلب الدب إلى كرمه”، وأن موسكو تقطف بلؤم محصول ما زرعته إيران وميليشياتها الأفغانية والعراقية واللبنانية داخل الحقول السورية.
خسارة باهظة
لم تعد إيران قادرة على وضع العراق ولبنان واليمن وسوريا تحت سقف ولاية الفقيه، لكنها ما زالت قادرة على التخريب في هذه الدول. ما زالت قادرة على منع التسوية في اليمن وتقويض نتائج مؤتمر السويد. ما زالت قادرة على تحريك ميليشياتها في العراق ودفع أتباعها هناك للتأثير على حكومة عادل عبدالمهدي وضبط خياراته. ما زالت قادرة على إرباك اللبنانيين قبل أيام على الجلسات البرلمانية لمنح الثقة للحكومة بعد أشهر طويلة على منع ولادتها.
مقاربات طهران من خلال ظريف تمثّل واجهة صراع بين وجهة عمار تعمل على الدفع بها الدوائر العربية والدولية في شؤون العراق وسوريا ولبنان واليمن، ووجهة دمار تسعى طهران لها في جولات رجل الدبلوماسية الأول في إيران.
لا تملك طهران أمر تغيير الوجهات الجديدة. يعلم ظريف أن إيران باتت إحدى الدول التي تتوق لحماية مصالحها في العراق ولم تعد الدولة الوحيدة التي تملك باع الهيمنة المطلق على هذا البلد. يعلم أن أمر اليمن صار خارج نطاق مواهب الحرس الثوري وجنراله الشهير.
ويعلم أن قرار خروج بلاده من سوريا لن يقنع اللبنانيين بقبول ما رفضوه سابقا. فإذا ما كانوا مجمعين على رفض سلاح حزب الله الإيراني فلن يسلّحوا جيشهم بذلك السلاح.
يعرف ظريف ذلك. لا يهمّ، يطرق باب بيروت، ليترك لحزب الله وأمينه العام أمر البناء على ذلك الطرق من أجل ضخّ مزيد من الإرباك في يوميات حكومة، ينظر إليها العالم ويتطلع اللبنانيون إلى فعاليتها لإخراجهم من ضيق طالت أثقاله فوق صدورهم.
المصدر: العرب اللندنية