بقلم: د. ماجد السامرائي.
هناك تفسيران خاضعان لروايتين تتعلقان بقرار اعتقال أمين عام لواء أبوالفضل العباس، أوس الخفاجي. التفسير الأول يدعم الرواية الرسمية لقيادة الحشد والهدف الإعلامي وهو لإظهار أن هذه القيادة لا تقبل بتجاوزات الاستيلاء على المباني العامة والاستحواذ عليها وتحويلها إلى مقرّات مدججة بالسلاح داخل أحياء بغداد مثل الكرادة، وهي ضمن سلسلة قرارات لإخلاء تلك المقرّات الوهمية حسب تعبير بيان الحشد، وكذلك لتمرير الهدف للرأي العام بأن الحشد الشعبي مؤسسة رسمية تابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة وهي تعاقب أي متمرد على قواعد العمل الرسمي مهما كان حجمه، رغم أن من أعتقل ليس فردا عاديا وإنما هو أحد القادة المهمين في الميليشيات، وكان خلال سنوات ما قبل 2010 أحد مساعدي مقتدى الصدر في جيش المهدي وانشق عنه كغيره من بعض القادة كقيس الخزعلي، وشكّلوا فصائل عسكرية ضمن الهبة الشعبية العسكرية العامة التي حصلت بين 2014 و2017 في الحرب ضد داعش.
ولكن أوس الخفاجي ذهب بعيداً في خط “المقاومة” حين انتقل مع مقاتليه إلى دمشق عام 2012 وقاتل ضد فصائل الثورة السورية المسلحة التي كانت تستهدف نظام بشار الأسد، واليوم يتم إسقاطه سياسيا وعسكريا وإعلاميا أمام الرأي العام، ما يعطي المبررات للتفسير الثاني المتداول والقائل بأن هذا التحرك الأمني الإقصائي تقرر ونُفذ من قبل قيادة الحشد دون علم الحكومة ومن خلال الأجهزة الأمنية الخاصة بها، والتي لديها هيئاتها المستقلة وحتى محاكمها الخاصة حسب تصريحات سابقة لمسؤوليها.
لم تعلق الحكومة على هذا الحدث، وتركت لجهات برلمانية الترويج لتشريع قانون يمنع أي تطاول على الحكومة من قبل الزعامات العشائرية بعد تهديد زعيم عشائر الخفاجة للحكومة بإطلاق سراح ابنها، أوس، وإلا فالثورة ضد الحكومة قادمة كثورة العشرين، رغم أن المؤسسة العشائرية العراقية قد ساندت الأحزاب الحاكمة وأمدتها بقوافل من البرلمانيين وغالبيتهم أميّون. وما زالت للعشائر مكانتها في الواقع العراقي بل بُعثت بقوة بعد العام 2003 وجرت عمليات تسييسها مذهبيا، لكن غالبيتها تشبثت بعراقيتها ورفضت مشروع التفكيك المذهبي الطائفي.
هذا الحادث يكشف عن صراع خفيّ بين قيادات الفصائل المسلحة تتعلق بالمنهج السياسي والتوجهات الجديدة لما بعد الحرب على داعش، وهي ليست بعيدة عن برامج تفكيك الحشد التي تنادي بها أوساط دولية في مقدمتها الولايات المتحدة ترتبط بتوفير الأرضية الصالحة لإمكانيات الدعم العربي والأممي للعراق في مرحلة البناء وإعادة الإعمار، والتخلّي عن العسكرة والتجييش خارج المؤسسات الرسمية. وقد تحدث حسب ما يتوقع سلسلة إجراءات لاحقة كجزء من سيناريو يقوده قاسم سليماني لتوجيه رسائل إلى واشنطن مفادها أنه بالإمكان إسقاط أعمدة من هياكل الفصائل المسلحة واحدة تلو الأخرى، تلبية للرغبات الأميركية والعربية المتحالفة معها والمبلغة رسميا إلى حكومة عادل عبدالمهدي في بداية تشكيلها.
الوضع المرتبك الذي تعيشه الفصائل المسلحة بسبب المأزق الإيراني وتبلور خط عراقي نما داخل الوسط الشيعي يضيق الخناق على خط الولاء لإيران، ما يدعو جميع تلك الفصائل بما فيها الموالية لطهران أن تراجع أوضاعها وتعيد حساباتها.
ولكن السؤال أمام فرضية اللعبة الإيرانية هل يستطيع نظام ولاية الفقيه التفريط ببناء استغرق خمسة عشر عاماً لوصوله إلى هذا المستوى من الأداء في لبنان وسوريا والعراق واليمن؟ وإذا كان كذلك فهل يعني أن النظام الإيراني وصل إلى مرحلة الضعف تتطلب تقديم تنازلات إستراتيجية، أم أن العكس هو الصحيح وهو أن طهران تمارس لعبة تمويه للجهات الأميركية بأنها مستعدة لتقديم تنازلات في التخلّي عن ميليشيات مؤذية لواشنطن والدخول في حوار الضعفاء أمام الجبابرة، في حين أنها توجه ضرباتها للخط العراقي المعتدل داخل الفصائل المسلحة.
وقد اتهم أوس الخفاجي علنا بأنه يميل إلى الخط الأميركي وسبق أن دعمه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، فهل وصل نظام خامئني إلى الحالة التي وصل إليها نظام صدام ما بين عامي 1991 و2003 حين شعر أن الأميركان لن يستهدفوا نظامه عسكريا بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، ولكن داخل هذه المقارنة تكمن حقيقة أن قوى اليمين الأميركي المتطرف كانت لها خططها لتغيير النظام في بغداد، أما مع إيران فلا توجد أيّ مؤشرات سرية أو علنية لهدف تغيير نظام طهران لا في عهد الرئيس السابق باراك أوباما ولا في عهد دونالد ترامب ولا في المستقبل، إنها فكرة التعايش الناعم التي نفّذها الرئيس أوباما والتعايش الخشن التي تنفذها ادارة ترامب حاليا. ولو كانت واشنطن جادة في تغيير النظام لاعتمدت على فصائل المعارضة الإيرانية ومن بينها المعارضة المتواجدة في باريس والتي يعتقد زعماؤها بأن الثورة الإيرانية لعام 1979 قد سُرقت منهم وهي معارضة ليبرالية وليست كما كانت عليه المعارضة العراقية قبل عام 2003.
الوضع المرتبك الذي تعيشه الفصائل المسلحة بسبب المأزق الإيراني وتبلور خط عراقي نما داخل الوسط السياسي الشيعي يضيق الخناق على خط الولاء لإيران مهما كانت مظهريته العسكرية شديدة، مما يدعو جميع تلك الفصائل بما فيها الموالية لطهران، خصوصا تلك التي أصبحت لها مواقع مهمة في العملية السياسية، أن تراجع أوضاعها وتعيد حساباتها فلم يعد أمامها من طريق سوى إلقاء سلاحها واستبداله بصوت المواطن كقوى مدنية لكي تنسجم مع مصالح العراق. فلا مستقبل لمن يضع يده خارج بلده مهما كانت أيديولوجيته وسياساته، كما تقع على رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي مسؤولية التنفيذ السريع لبرنامج حصر السلاح بيد الدولة وإشاعة القانون، فماذا ينتظر بعد الإعلان المباشر من المرجع السيستاني لتنفيذ هذا المطلب. لا بد له من إصدار مواقف شجاعة ومغادرة التردد ومداراة القوى السياسية والاستجابة لمتطلبات شعب العراق.
التفسير الأكثر واقعية هو أن أوس الخفاجي تجاوز حدوده في إعلان رفضه للوجوديْن الإيراني والأميركي، وإن تشكيلات الفصائل الموالية لطهران لا تسمح برفض الوجود الإيراني في العراق، ولهذا تم قتل علاء مشذوب قبل أيام في كربلاء.
المصدر: العرب اللندنية