قبل عام وثلاثة أشهر على هبوط طائرة مؤسس الجمهورية الإسلامية، أية الله الخميني، في مطار مهرآباد في طهران، هبطت طائرة أخرى في مطار بن غوريون في تل أبيب، على متنها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات.
وكان شاه إيران السابق، محمد رضا بهلوي، واحدا من قلة من الزعماء المسلمين ممن شجعوا السادات على هذه الخطوة، بخلاف السائد عربيا وإسلاميا. فقد كان الشاه حينها صديقا قريبا للسادات الذي عاد واستضافه عندما قرر الرحيل عن بلاده قبل أسبوعين من عودة الخميني.
وبعد مرور عام وثمانية أشهر أخرى، أطلق خالد الإسلامبولي الرصاص على السادات وأرداه قتيلا. وسمي شارع في طهران باسم الإسلامبولي الذي لا تزال صورته حتى اللحظة تغطي أحد مباني في هذا الشارع.
تروي هذه الخلاصة قصة العلاقات الإيرانية في المنطقة، في زمن الشاه وفي زمن الثورة. والمشترك بين العهدين: أن إيران، مملكة كانت أم جمهورية، كانت على الدوام لاعبا في المنطقة بغض النظر عن تحالفاتها، مع الشرق أو الغرب، وبدونهما.
زمنان مختلفان وطموح متشابه
كان التباين واضحا في المواقف بين الزمنين، من حرب اليمن الأولى في الستينيات وحرب ظفار العمانية في السبعينيات، والعلاقة المميزة مع إسرائيل، في زمن الشاه، إلى حروب اليمن والعراق وسوريا، المتتالية خلال العقدين الأخيرين، ودعم الفصائل الفلسطينية وحزب الله اللبناني في حربهم ضد إسرائيل، في زمن الجمهورية الإسلامية.
لكنه لا يخفى ميل من يحكم طهران، أيا كان، إلى صناعة تأثير في المحيط الفعال، حينا بعنوان القوة العظمى الإقليمية وشرطي الخليج في زمن التحالف مع الغرب، ولا سيما مع واشنطن، وحينا آخر بشعار الدفاع عن المستضعفين وتصدير الثورة بعد الإطاحة بالشاه في شباط فبراير من العام ١٩٧٩.
وفي طهران اليوم، لا يغيب النظر إلى الدور الإقليمي عن الشارع، أكان بالاسم أم بالصورة ام بالشعارات.
إذ شهدت المدينة ثلاثة معارض ضخمة كان موضوعها الصواريخ والأسلحة والطائرات، وكلها جزء من محاولة ربط الداخل بالخارج، لا سيما وأن الداخل الذي يعاني من الأزمة الاقتصادية الخانقة تخرج منه أصوات مسموعة بقوة تناقش في جدوى الدور الإقليمي بينما الداخل يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية قد تكون الأكثر دقة منذ العقد الأول من الثورة.
بصمة إيران الإقليمية
في حوارات سريعة مع بعض الشبان الإيرانيين تولدت لدي صورة عن التباينات الضخمة في النظرة ما يرونه البصمة الإقليمية لبلادهم من حدودها مع العراق إلى حيث يمتد النفوذ والتأثير.
فمثلا فرهنك الذي التقيته خلال جولة في متحف “الدفاع المقدس” الذي يؤرخ للحرب الإيرانية العراقية، يعتقد أن بلاده بدون تأثير خارجي ستكون أكثر عرضة للتأثر بالخارج.
ويضيف أن الخارج “لم يترك لإيران رفاهية الاختيار، إذ فرض تهديد الاستقلال الداخلي وخطر التبعية للغرب نفسه على إيران، لذلك نحن نفهم أن نرى بلادنا تستثمر في الخارج لأن العائد على مستوى الاستقلالية لا يقارن بأي ثمن اقتصادي يمكن أن ندفعه”.
لكن وجهة النظر هذه لا تجد قبولا لدى محمود الذي أتخذ قرار الهجرة لكنه لا يجد طريقا مناسبا لها حتى اللحظة. يتساءل محمود عن جدوى النفوذ في الخارج في الوقت الذي لا يجد فيه عدد كبير من الإيرانيين عملا.
ويشرح كيف أن دعم حلفاء إيران في الخارج يؤثر ليس على الوضع الاقتصادي فحسب بل ويتسبب بفرض عقوبات إضافية على إيران، ويقول “هناك أولويات لأي بلد في العالم، نحن نضحي بهذه الأولويات بسبب حلم التأثير، الأهم اليوم هو أن أبقى في بلادي لا أن أهاجر، ولكي أبقى يجب أن تكون هناك مقومات لصمودي هنا، وظائف استثمارات، ثقة دولية، كل هذا لا مكان له بسبب الطموحات التي أخذتنا إلى صراعات تجعلنا اليوم تحت ضغط كبير”.
ويقف محمود وفرهنك على خطي نقيض، لكنهما يقفان بعيدا حوالي ألفي كيلومتر عن حديقة إيران في مارون الرأس، على الحدود الجنوبية للبنان، إحدى صور القوة الناعمة الإيرانية في المنطقة بمحاذاة إسرائيل.
وتضم الحديقة غرفا مفتوحة للمتنزهين بأسماء المحافظات الإيرانية كافة، وصورا للقادة الإيرانيين ومجسما لمسجد الصخرة في القدس وعليه شعار الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ويتكرر مشهد التأثير في مدن أخرى بين لبنان والعراق وسوريا حيث الحضور يتخطى المحدودية العسكرية إلى التأثير الإيديولوجي والسياسي.
ويشرح الكاتب الإيراني محمد صادق الحسيني في مقابلة مع بي بي سي الخلفيات الإيرانية لصناعة تأثير في الإقليم فيقول إن طهران من الأساس تريد أن تصبح دولة مواجهة مع إسرائيل فهي تقترب جغرافيا ممن تراه “العدو الذي تعتبره الأساس لثورتها وليس فقط لطلب العدالة لفلسطين والفلسطينيين… فمن يناصر القدس لديه كل القضايا، أكان في مواجهة الظلم الذي تقوم به إسرائيل، أم في مناصرة القضايا العادلة”.
لكن كاميليا إنتخابي فرد، وهي صحفية إيرانية معارضة تعيش في نيويورك ترى أن السياسة الإيرانية تجاه المنطقة تسببت بالأذى للقضية الفلسطينية، وهي تعتقد أن علاقات الشاه المميزة مع إسرائيل والفلسطينيين كان بإمكانها أن تضمن الوصول لحل الدولتين لو أن الثورة لم تحدث.
وتضيف إنتخابي: “في غياب الحلول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي فإن إيران تجد في ذلك مبررا لدعم الجماعات الإقليمية الراديكالية مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وبالتالي لا تبني إيران علاقات بناءة مع الدول العربية الأخرى ما يجعلها عدوة لأمريكا وإسرائيل والدول العربية التي تقترب أكثر من إسرائيل بسبب هذه السياسات”.
لكن القضية الفلسطينية ليست مجال التأثير الوحيد لإيران في المنطقة، فإيران اليوم جزء من التحالف الذي حارب إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة معارضيه.
هكذا تحول الصراع بشكل تدريجي في سوريا من صراع داخلي يحمل تأثيرا داخليا، إلى صراع خارجي من خلال حضور إيران وروسيا وحزب الله اللبناني إلى جانب الحكومة السورية ودعم الغرب والدول العربية الخليجية للمعارضة.
وكان الصراع في سوريا واحدا من انعكاسات المواجهة الإقليمية الحادة بين إيران والمملكة العربية السعودية والذي تطور ليشمل أماكن أخرى في المنطقة، على مستويات مختلفة.
فهناك الحرب الدائرة في اليمن بين التحالف العربي بقيادة السعودية وحركة أنصار الله الحوثية الحليفة لإيران، والصراع السياسي في لبنان، إضافة إلى الأزمة الخليجية التي كان أحد أسبابها الرئيسية علاقات قطر مع إيران.
“جاءت إيران بنظرية تصدير الثورة التي تتناقض مع مصالح الدول العربية المحافظة” كما يعلق الكاتب السعودي أحمد عدنان في لقاء مع بي بي سي مشيرا إلى ان “من المستحيل على العرب في هذه المرحلة بالذات أن يصلوا إلى قاسم مشترك مع إيران لأنها تنتمي إلى فصيل الإسلام السياسي”، والدول العربية “أعلنت بشكل صريح أنها على حرب مع الفكر نفسه”.
المصدر: BBC