هناك علاقة وثيقة الصلة بين مكانة الإمارات العالمية التي تترسّخ وتنقل للآخرين صورة إيجابية عن مجتمع متسامح له تجربة طويلة في بناء أسس العيش المشترك، وبين الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.
فالبابا رأس الكنيسة الكاثوليكية التي تقود غالبية المسيحيين في العالم. وشخصية الإمارات تبلورت على مر السنوات الماضية في الساحة الدولية، باعتبارها نقطة مضيئة تتميز بتعايش وتسامح سكانها وتطوّر وانفتاح قوانينها. هذا الإشعاع الذي تتميز به الإمارات يزداد بريقه أكثر لأنها دولة تقع وسط محيط تتقاذفه الأصوليات والخلافات الطائفية والتطرّف والحروب والنزاعات، ورغم ذلك استطاعت الإمارات بحكمة قيادتها منذ عهد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، أن تكون نقطة جذب عالمي، سواء على المستوى السياحي أو الاقتصادي. وبزيارة البابا تتوجّه الأنظار نحو دولة الإمارات بوصفها أيضا محطة للحوار الحضاري والإنساني بين الأديان.
فقد قال قداسته في كلمة استبق بها زيارته للإمارات التي بدأت أمس الأحد وتستمر ثلاثة أيام، ما يفيد أن الحوار بين الأديان سيشهد انتقالة كبيرة من خلال مؤتمر “الأخوة الإنسانية” الذي تنظمه الإمارات، وتمت دعوة بابا الفاتيكان إلى حضوره، ولبّى الدعوة الرسمية التي وجهها إليه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وليّ عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وكانت قيادة الإمارات قد أعلنت مع حلول مطلع العام الجاري أن 2019 سيكون عاما للتسامح. وبالطبع تأتي الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس بالتزامن مع مؤتمر الحوار بين أقطاب الأديان العالمية الكبرى تحت شعار الأخوة الإنسانية، لكي تترجم الإمارات تركيزها على لفت أنظار العالم اليوم إلى قيمة التسامح وحاجة البشر إلى تفعيل الأخوة الإنسانية والتواصل الحضاري.
لا شك أن شخصية البابا الحالي وتصريحاته الإيجابية المتكررة والمتصلة بالحوار والتعايش الإنساني، لعبت دورا كبيرا في ردم المسافات وتجسير العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي
زيارة بابا الفاتيكان إلى الإمارات تاريخية أيضا لأنها أول زيارة بابوية لمنطقة الخليج والجزيرة العربية، وكان لدولة الإمارات قصب السبق وامتياز الاستضافة والترتيب للحوار الذي يشترك فيه أيضا فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب.
ومنذ أمس الأحد وحتى موعد القداس البابوي الكبير الذي سيقام غدا في العاصمة أبوظبي، تتجه أنظار وسائل الإعلام العالمي نحو الإمارات، بما فيها الكثير من كاميرات المحطات التلفزيونية والفضائيات التابعة لكبرى الكنائس الغربية، وبذلك تحوّلت زيارة البابا إلى حدث احتفالي إنساني عالمي، ومعه تأمل الإمارات أن تتغير الصورة النمطية في الإعلام الغربي عن منطقتنا.
فإذا كانت التفسيرات المغلوطة للدين في بعض الدول تنتج عناصر متطرّفة، فلا بد من تفهم أن الفقر وانعدام الاستقرار السياسي والأمني وتجاهل المجتمع الدولي للأزمات في المجتمعات الفقيرة، كل ذلك يؤدي إلى اضطراب بعض المكونات الاجتماعية في العالم الإسلامي. وهذا ما يستدعي وقفة دولية جادة لفتح آفاق اقتصادية واستثمار للموارد وبذل جهود لإزالة التوترات العالقة، ووضع حد للأنظمة المتطرفة التي تستخدم إمكانيات شعوبها لنشر التعصب والفرقة على نطاق واسع، كما يفعل النظام الإيراني.
ومن المؤشرات التي لا بد أن العالم سوف يأخذها بعين الاعتبار عند النظر إلى مكانة الإمارات وأهليتها لإدارة واستضافة حوارات عالمية بين الأديان، نذكر على سبيل المثال ما حققته من حضور دولي وسمعة حسنة، من خلال وصول جواز السفر الإماراتي إلى المرتبة الأولى عالميا. ومع كل إنجاز يتحقق يزداد تطلع الإمارات نحو مواصلة السباق مع الزمن لتطوير مؤسساتها وقوانينها وعلاقاتها الدولية.
من ناحية أخرى لا شك أن شخصية البابا الحالي وتصريحاته الإيجابية المتكررة والمتصلة بالحوار والتعايش الإنساني، لعبت دورا كبيرا في ردم المسافات وتجسير العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي، فمنذ تولّيه كرسي البابوية أسهمت تصريحات قداسته في فتح آفاق أرحب للحوار والتلاقي وبحث تعزيز وتمتين مبادئ التعايش بين مختلف الأديان. وبدورها قامت الإمارات بمدّ جسور الحوار والمبادرة بتأكيد قيمة التسامح، من خلال استضافة البابا فرنسيس بالتزامن مع تنظيم مؤتمر الأخوة الإنسانية.
إن الخطوات الكبرى التي تؤدي إلى تشجيع الانفتاح ومحاصرة التطرّف ونبذ التعصب تبدأ دائما بخطوة أولى أساسية، والإمارات تقوم بهذا الدور وتؤسس له من خلال تمسّك المجتمع الإماراتي بالتسامح الفطري وثقافة التعايش والقيم الأصيلة المتوارثة. ومن البديهي القول إن التسامح مع الآخر لا يمكن أن يحدث بقرار سياسي، بل من خلال ثقافة عامة وممارسات وسلوكيات يومية يعيشها الإنسان، وهذا ما توارثه المواطن الإماراتي في خصوصية متفردة على مستوى المحيط الخليجي والعربي، ربما لخصوصيات اقتصادية فرضها الموقع الجغرافي للإمارات، والذي جعلها ملتقى اقتصاديّا ومتنفسا للعيش المشترك بين جنسيات وثقافات وأديان متعددة، استطاع المواطن الإماراتي المسلم خلالها أن يتعايش مع ذلك التنوع، وأن يجعل الفائدة المشتركة مدخلاً للقبول بالآخر، ودفع الآخر، بالضرورة، إلى احترام الثقافة الإسلامية لأهل البلد.
زيارة بابا الفاتيكان إلى الإمارات تاريخية لأنها أول زيارة بابوية لمنطقة الخليج والجزيرة العربية، وكان لدولة الإمارات قصب السبق وامتياز الاستضافة والترتيب للحوار الذي يشترك فيه أيضاً شيخ الأزهر أحمد الطيب
لذلك نستطيع أن نتحدث في الإمارات عن ميراث متراكم منذ عقود طويلة تعززت فيه تجربة التسامح والتعايش وتبادل المصالح، وهذا ما جعل التعايش في الوقت الراهن بين ما يقرب من 200 جنسية متاحا ويلمسه الجميع على أرض الإمارات بمحبة واحترام للقوانين والخصوصيات الدينية والثقافية.
من المفيد لنا وللعالم العربي والإسلامي أن نقدم للآخر صورة جديدة تعيد بناء تصورات الغرب حولنا، والتي أصبحت صورة سوداوية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 المشؤومة. وقبلها كانت صورة العالم الإسلامي لدى الغرب منقولة على هوى المستشرقين الذين لم يلفت انتباههم سوى الغريب والعجيب، وكل ما يصور العرب والمسلمين على هيئة مماثلة لصورة الهنود الحمر!
لقد آن الأوان لإعادة صياغة صورة العالم الإسلامي، ولكن بشرط أن تبذل المجتمعات في منطقتنا جهودا حقيقة للإصلاح الديني، والتوقف عن تصدير الصورة النمطية للمسلم الذي لا يعترف بالآخر. ويجب كذلك عدم تجاهل أن العالم الغربي استقبل مئات الآلاف من اللاجئين العرب والمسلمين ووفر لهم الحياة الآمنة، ولا شك أن التواصل الإنساني بين الثقافتين الذي فرضته الظروف والاضطرابات وموجات الهجرة، من شأنه أن يلعب دورا كبيرا وعمليا في انبعاث قيم جديدة على رأسها التعايش والتسامح الذي تدعو إليه الإمارات.
المصدر: العرب اللندنية