بقلم: هيفاء زنكنة
على مدى ثلاثة أيام تلقى عدد من رجال الدين من محافظة نينوى، شمال العراق «تدريبات مركزة على كيفية بناء السلام والتعايش والحد من الكراهية»، في ورشة أدارها « مشرف على عمليات بناء السلام» من منظمة مجتمع مدني تدعى «سند لبناء السلام». وتهدف المنظمة من خلال الورشة الى»بناء السلام» و«خلق فرص السلام»، بالإضافة الى «التسامح والتآلف والتعايش المجتمعي وفضاء الإنسانية». مما يعني ان المنظمة تفترض، إما بحسن نية أو لأن التمويل المتوافر يتطلب برنامجا كهذا، إن أهل الموصل، خاصة، ونينوى عموما، لم يحدث وأن عاشوا سوية بسلام وان المنظمة قادرة على تحقيق ذلك بقدرة مديرها ولقبه الرسمي «مشرف على عمليات بناء السلام». وهو لقب، ظننته قد استخدم، في البداية، من باب المزاح، في مجال مسميات نشاطات المجتمع المدني المستحدثة، إلا أن مواصلة القراءة أكدت ان المسألة جدية. ويستحق عمل المنظمة الذكر عند رصد مصادر تمويل المجتمع المدني بالإضافة الى النظر في ماهية المشاريع ومدى استجابتها للحاجة الفعلية للمجتمع، منذ الاحتلال عام 2003 وحتى اليوم.
الملاحظ أن منظمة «سند لبناء السلام» تأسست عام 2013 بدعم من «معهد الولايات المتحدة للسلام». وهو مؤسسة يتمتع أعضاء مجلسها بعلاقات وثيقة مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية. مما يضع علامة استفهام حول دور المعهد وماهية توفيره التمويل والدعم لمنظمات مجتمع مدني في بلد قامت أمريكا بغزوه، وهي المسؤولة الأولى عن تخريبه، بشريا وعمرانيا، بشكل مباشر وغير مباشر. وتصبح علامة الأستفهام أكبر حين يتم تمويل منظمات المجتمع المدني في البلد المحتل تحت شعار رنان هو «بناء السلام»، فعن أي سلام يتحدثون؟ هل هو ذات « السلام» الذي يحاول الكيان الصهيوني تسويقه، يوميا، بينما يدير آلة القتل المنهجي ضد الفلسطينيين؟ ألم يتم تفريغ السلام من فحواه النبيل بعد؟
إن مئات المشاريع قد تم تجميدها بعد الانسحاب الجزئي لقوات الاحتلال عام 2011، ولكن ما أسس له من فساد مالي بقي متغلغلاً، في بنية الحكومات العراقية ومؤسساتها.
مشروع آخر يستحق الاشارة، أنجزته منظمة مجتمع مدني تدعى «مؤسسة تجديد عراق لتنمية وتطوير الاقتصاد» تقدم نفسها باعتبارها « جادة في تطوير الوضع الاقتصادي والعلمي في العراق كمساهمة في بناء العراق الجديد». أما المشروع الذي أنجز نهاية العام الماضي، فهو «حملة تشجيع البدء المبكر للرضاعة الطبيعية»، حيث تدرب خلال يومين 20 شخصا من ملاكات الصحة على «تشجيع الأمهات العراقيات على ترضيع الأطفال حديثي الولادة». ويؤكد موقع المؤسسة على ان الحملة تمت بدعم «من الشعب الأمريكي» و«المؤسسات الإنسانية» ووزارة الصحة وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف). هذه المعلومات، تثير التساؤل حول ماهية المشاريع: فمتى توقفت الأمهات العراقيات عن إرضاع اطفالهن حديثي الولادة؟ حسب علمي، أنه إذا كانت هناك مشكلة فهي ان الأمهات يواصلن الارضاع لسنوات ما لم يكن هناك سبب صحي مانع وليس العكس. بالإمكان اعتبار هذه المشاريع نموذجاً مصغراً لمشاريع «إعادة الاعمار» على مدى أعوام الاحتلال.
وفي كتابه «كانت نيتنا حسنة»، يكشف الدبلوماسي الأمريكي بيتر فان بورن، قائد فريق إعادة الإعمار التابع لوزارة الخارجية الأمريكية في العراق، عن قائمة طويلة من المشاريع الخيالية أو الوهمية التي قام بها فريق الإعمار وفي كلا الحالتين لم تكن ذات فائدة إطلاقاً للمجتمع العراقي بينما «كلفت دافع الضرائب الأمريكي أموالاً طائلة»، حسب تعبيره، وان كانت الأموال، في الحقيقة، مستخلصة من العراق نفسه.
يتساءل فان بورن أثناء تمحيصه طبيعة المشاريع: «إذا ما تم تعيينك مسؤولا عن «إعمار العراق»، هل ستنفق أموال دافعي الضرائب على لوحة جدارية في أخطر أحياء بغداد لتشجيع المصالحة من خلال الفن؟ ماذا عن إنشاء «مصنع الحليب» النائي المعزول الذي لا يستطيع العاملون فيه نقل الحليب إلى السوق؟ أو إدارة صف لتدريب العراقيات على صنع المعجنات وفتح المقاهي في شوارع قصفت وتفتقر إلى الماء والكهرباء؟».
وإذا كانت مئات المشاريع قد تم تجميدها بعد الانسحاب الجزئي لقوات الاحتلال عام 2011، فإن ما أسس له من فساد مالي بقي متغلغلاً، في بنية الحكومات العراقية ومؤسساتها، من أعلى المناصب القيادية الى أصغرها، ومقبولاً، عملياً، من قبل كل المنخرطين في العملية السياسية، وبات، وهنا الخطر الأكبر، مؤثراً، أيضاً، على طبيعة وعمل «المجتمع المدني»، بذات المواصفات وبدرجات قبول متفاوتة، محليا وعالميا.
اكتشف ساسة الحكومة العراقية أهمية تأسيس منظمات المجتمع المدني كأداة للتظاهر بالديمقراطية وحقوق الانسان أمام المجتمع الدولي والدول المانحة .
لم تكن ولادة «المجتمع المدني» الذي برز بمنظماته وشبكات اتصالاته، في العراق المحتل منذ عام 2003، طبيعية. فباستثناء قلة من المنظمات المستقلة، فعلاً، جاءت ولادة معظم البقية مشوهة، بعدما أعلن ديك تشيني، وزير الخارجية، أن أي عمل مدني تدعمه جزء من سياستها الرسمية وليس كما تشاء المنظمات أو الناشطون. عدد منها كان جزءاً من القوة الناعمة لبلدان أخرى ساهمت بالغزو وكانت قد أسست في الخارج لتسويق الخطاب الدعائي لشن الحرب، ومن ثم تم تصديرها الى داخل البلد لترويج خطاب «بناء الديمقراطية». العدد الآخر، تم تأسيسه داخليا، في فترات تطلبت نشاطا دعائيا ترويجيا معينا، مثل تأسيس مئات المنظمات قبل الانتخابات لتصويرها بأنها «نزيهة وشفافة». هذه المنظمات تتلاشى حالما تنتفي الحاجة اليها وينتهي التمويل. وإذا كانت من أبرز مصادر الدعم والتمويل لمنظمات « المجتمع المدني» الناشطة داخل العراق هي وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أي) ووزارة الدفاع (البنتاغون) ووزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في فترة الاحتلال الأولى فإن مسؤولية التمويل تقاسمتها منظمات أمريكية، مدعومة حكوميا، باشرت ذات المهمة وهي: المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية، والمعهد الجمهوري الدولي، ومركز المشروعات الخاصة المستقلة، والمركز الأمريكي للتضامن الدولي من أجل العمل («مركز التضامن»)، وعدة منظمات أصغر مثل معهد الولايات المتحدة للسلام. مهمتها، على اختلاف أسمائها، تصدير السياسة الأمريكية تحت أغطية ملونة ومزركشة بالديمقراطية والمصالحة والسلام.
ولم يقتصر هوس تأسيس المنظمات على بلدان الاحتلال فقط، إذ سرعان ما اكتشف ساسة الحكومة العراقية أهميتها كأداة للتظاهر بالديمقراطية وحقوق الانسان أمام المجتمع الدولي والدول المانحة من جهة، ولإجهاض عمل المنظمات المستقلة من جهة أخرى. فباتت المنظمات الكبيرة المهيمنة على الساحة امتداداً طبيعياً للحكومة، اذ يحتل رؤساء عدد من أكبر منظمات المجتمع المدني المهيمنة على الساحة مناصب حكومية عليا، بالإضافة الى الأحزاب الفاسدة القادرة على التمويل، وتم تحويل «المجتمع المدني» من مجموعة من المنظمات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة إلى واجهات لمن يدفع ناهيك عن تمثيل السياسة الخارجية لدول أخرى، والأدهى من ذلك حين تكون الدولة الممولة هي محتلة للبلد وعملت بمثابرة على تهديم بنيته التحتية وسببت مقتل مليون مواطن.
ان تدخل الأحزاب ووصاية الحكومة يعني موت المجتمع المدني فما بالك بالتدخل الأجنبي؟ ما بالك إذا كان الأجنبي هو المحتل الذي هدم البلد وعاد متظاهراً ببناء السلام من خلال منظمات ومشاريع تغذي قلة من المستفيدين أو السذج، وتمنع قيام مجتمع مدني فاعل يعمل على تشكيل الوعي ورفع المستوى الثقافي والتفكير المستقل والانجاز الحقيقي.
المصدر: القدس العربي