بقلم: مشرق عباس.
الكل يسأل الكل في العراق، والكل يعترف بأنه لايمتلك إجابة، فأن تكون التجربة السياسية قد فشلت برمتها، وأن تكون القوى والأحزاب قد عجزت عن انتاج نظام سياسي يتلاءم مع ظروف مابعد الحرب على “داعش”، وأن تكون الدولة حائرة في توصيف نفسها وفلسفتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وأن لايكون ثمة عقد محدد بين الشعب والسلطات التي تصدت لقيادته، فكل ذلك يتطلب العودة إلى الاسئلة البديهية.
ومن تلك الأسئلة الأولى حديث متقطع يرتفع ثم يخفو عن طبيعة النظام السياسي العراقي، وإذا كان بالفعل هو السبب الجوهري لكل العجز عن الانجاز والارتباك في تحديد الاولويات، بل واليأس احياناً أمام مهمات من المفترض أن تكون حلولها بديهية بدورها مثل القضاء على الفساد وترطيب البيئة السياسية المتوترة.
ويبدو أن الوقوف اليوم لمحاكمة تجربة النظام البرلماني برمتها، وتحميلها مسؤولية كل الخراب الحالي، أمر خطير، ولايمكن التسليم به تماما، في ضوء حقائق تتعلق بطبيعة التطبيقات العملية لهذا النظام، والضغوط والظروف غير الطبيعية التي رافقت صوغه، وعجز القوى المختلفة عن تطويره وتقويمه وسد نواقصه، وتدعيم آلياته، لكنه مع كل ذلك سؤال بديهي لم تتم الاجابة عنه خلال السنوات الطويلة الماضية.
الرئيس في رؤية معظم العراقيين مازال عليه أان يكون صاحب القرار التنفيذي ورأس السلطة.
هل غير النظام البرلماني الدولة العراقية؟ كان يجب أن يفعل، وكان يجب لدولة تنتقل من إرث قرن كامل من القوانين والآليات والأنظمة المكيفة لخدمة نظام رئاسي شمولي يتخذ القرار فيه من شخص واحد، أن تعيد صوغ نفسها لتتكيف مع النظام الجديد، وكانت نحو 13 عاماً من التطبيق الفعلي للنظام أكثر من كافية لتحقيق ذلك.
يقول وزير عراقي محنك وصاحب تجربة إدارية طويلة، أن آليات عمل الوزارات العراقية قائمة على نظام شديد المركزية يضع الوزير بمنزلة الرئيس المطلق المتحكم، وأن محاولات تغيير قوانين الوزارات التي تمت بعد 2003 لم تغير في هذا الواقع شيئاً بل أنها ربما زادت تعقيده، بما سمح لوزراء بتحويل وزاراتهم إلى ضيعات لاحزابهم ومكوناتهم وحتى عائلاتهم، في مقابل أن النظام لايمنح رئيس الوزراء نفسه مثل هذه الهيمنة، ما دفع برؤساء حكومات سابقين إلى محاولة تأسيس دولة ظل للاستحواذ على قرار كل وزراة من وزيرها عبر ما باتت تعرف اليوم بـ”الامانة العامة لمجلس الوزراء”، أو حتى من خلال الهيئات المستقلة التي وجد رئيس الحكومة مدخلاً لتصبح تحت هيمنته.
تلك مقاربة واحدة من بين مقاربات لاتقل أهمية، تخص عجز الوزارات عن التكيف مع اللامركزية مثلاً، وتمنع النظم والقوانين والثقافات عن التكيف مع دور البرلمان كسلطة أساسية لصنع القرار، وأيضاً قيادة توجهات الحكومة وخطوطها العامة ومراقبتها ومحاسبتها وتغييرها إذا تطلب الامر، حتى أن صلاحيات رئيس الجمهورية المحددة في نطاق الدستور، لايتم فهمها على مستويات ثقافية وشعبية مختلفة ، فالرئيس في رؤية معظم العراقيين مازال عليه أن يكون صاحب القرار التنفيذي ورأس السلطة.
ليس الأمر لعباً بالمحظورات، فأمام بلد يتم استباحته بشكل منتظم على يد بيئة سياسية غارقة في الفساد والفوضى والصراعات والتسقيط المتبادل، ليس ثمة بديهية، والأصل هو العودة لمناقشة أسس كل هذا الارتباك ومواجهة الأسئلة الصعبة والإجابة عنها بشكل جماعي.
ومن الغريب أن تكون أكثر الاسئلة صعوبة هي أكثرها بديهية مثل : هل تكيف العراقيون على كل المستويات مع طبيعة النظام البرلماني بعد 13 عاماً من تطبيقه؟ وماهي المحاذير التي تمنع تطويره أو تغييره إذا تطلب الأمر؟ ولماذا تخشى الأحزاب السياسية مواجهة الجمهور بحيرتها أمام التضارب الصارخ في فلسفة الدولة الإدارية وفلسفتها السياسية؟ وماهي آليات التغيير آلامنة والمطمئنة للجميع إذا حصلت قناعة التغيير؟
المصدر: الحياة اللندنية