بقلم: د. ماجد السامرائي
لا يمكن بجميع المقاييس الاستراتيجية والسياسية أن يقاتل الأميركان الإيرانيين حاليا على أرض العراق أو غيره، وما يحصل اليوم من تأجيج للمعركة السياسية بين الطرفين لن يصل إلى حالة الاشتباك العسكري، رغم أن النيران لا قانون لاشتعالها في أي لحظة.
التصعيد الحالي بسبب خروج طهران عن فلكها الطبيعي كدولة نامية حالها حال الدول الأخرى في المنطقة، وبسبب أن نظامها الطائفي المتطلع إلى خارج الحدود خلف الكوارث على الشعوب الإيرانية التي تستحق الحياة المدنية الحرة الكريمة.
كان نفوذ طهران في العراق، إضافة إلى ثلاث عواصم عربية أخرى، سببا في شعورها بأنها دولة كبيرة قادرة على إدارة صراع سياسي وعسكري مع واشنطن تتمكن من خلاله من سرقة هذه المكانة، رغم أن هذا الواقع شاذ في الهيمنة الطارئة على العراق من خلال الحكم وبسبب الأميركان الذين قدموه هبة لطهران.
يحاول ترامب في سياسته الخارجية تصحيح بعض المسارات الخاطئة خصوصا في ما أعطته واشنطن لطهران من مزايا “الدولة الكبيرة”
إدارة الرئيس دونالد ترامب صدمت النظام الإيراني بتخليها شكليا عن تلك العلاقة الحميمة السابقة، فالرئيس الأميركي طوى صفحة الحروب الخارجية ويسعى إلى تحقيق شعاره لناخبيه “أميركا أولا” بالسعي لتوفير المزيد من الموارد المالية، فما يشغل الفرد الأميركي هو العمل والرفاهية. وغالبية المواطنين الأميركان غير معنيين بما يحصل خارج الولايات المتحدة، والكثير منهم لا يفرق بين العراق وإيران لأن لا فوارق واضحة في تلفظهما باللغة الإنكليزية. يعلن عن استراتيجية إعادة إيران إلى حجمها الطبيعي وفق العقوبات الاقتصادية وخصوصا على الساحة العراقية، لأن العراق هو المجال الحيوي الأول لتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية
ويحاول ترامب في سياسته الخارجية تصحيح بعض المسارات الخاطئة خصوصا في ما أعطته واشنطن لطهران من مزايا “الدولة الكبيرة”، وهي الدولة المصنفة “مارقة” في الاتفاق النووي، والخضوع لرغباتها في الهيمنة الكلية على العراق وباقي العواصم العربية الثلاث، بعد أن كانت طهران بين 1979 و2003 منشغلة بترتيب برنامجها التوسعي الطائفي في العراق، وعجزت عن تحقيق هذا الهدف وراحت تداوي جراح هزيمتها العسكرية أمام جيش وشعب العراق في الحرب الخطأ التي دامت ثماني سنوات.
وقدمت لها واشنطن بعد أن بلعت طعم الوهم بنفوذها المذهبي مكافأة تاريخية مقابل تسهيلات لوجيستية لبسط احتلالها العسكري، لذلك فإن ترامب يشعر بمرارة أن بلاده أنفقت 7 تريليونات دولار في العراق والمنطقة من دون مقابل، وهو يعلن عن استراتيجية إعادة إيران إلى حجمها الطبيعي وفق العقوبات الاقتصادية وخصوصا على الساحة العراقية، لأن العراق هو المجال الحيوي الأول لتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية.
لكن دخول ترامب إلى هذه المعركة جاء متأخرا ويحتاج إلى الكثير من الترتيبات اللوجستية والسياسية المتواصلة وبالتعاون مع السياسيين العراقيين، وليس مثلما ينحصر حاليا بالمناكفات الإعلامية حيث تعرض إيران نفسها على أنها دولة عظمى في مواجهة الدولة الأعظم في العالم، وهذا لم يحدث لولا ما توفر لنظام ولاية الفقيه من وسائل السيطرة والتحكم السياسي والعسكري في العراق عبر أدوات شعبية ميليشياوية استثمرت الحرب على تنظيم داعش الذي تمدد في العراق بسبب سياسات حكومة نوري المالكي تجاه العرب السنة.
وانتقلت تلك الأدوات الميليشياوية العراقية إلى المرحلة الأهم بالنسبة لطهران وهي التأثير في مسار العملية السياسية في البرلمان والحكومة بعد الانتخابات الأخيرة، بتمكنها من ضم بعض الزعامات السنية وإشعارها بأن مصالحها مع طهران وليست مع واشنطن، وإغاظة الإدارة الأميركية بأنها تسيطر على العراق، إلى درجة أن وزير الخارجية محمد جواد ظريف قد حقق أطول زيارة للعراق ابتعدت عن الأعراف البروتوكولية على أعقاب زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبغداد وطلبه من حكومة عادل عبدالمهدي تجميد وتفكيك الميليشيات في العراق.
ظريف تنقل بين كربلاء والنجف وأربيل والسليمانية بكل راحة، والتقى بمجاميع شعبية خرقا للبروتوكول الدبلوماسي، من بينها ممن ادعوا انتماءهم إلى عشائر عراقية موالية لطهران وتحدث معهم باللغة الفارسية آمرا بإعطاء إيران الأولوية في الاستثمار وإعادة إعمار العراق، في حين أن بلاده لم تقدم دولارا واحدا في مؤتمر الكويت لإعمار العراق العام الماضي. كما أكد أن “الأميركان ذاهبون ونحن الباقون لأننا أهل الأرض”، وهو كلام فيه سلب مهين لسيادة العراق، ومع ذلك فإن حكومة عبدالمهدي صامتة، وهذه هي نقطة القوة الأولى التي تمتلكها طهران الآن.
القلق الإيراني جدي على المستوى الجيوسياسي الذي يقع العراق في قلبه، خصوصا في ظل الأخبار التي تتحدث عن “ناتو عربي” حتى وإن ما زال في إطار المشاورات
ولهذا أوعزت إلى وكلائها بتمرير قرار برلماني يلغي الاتفاقية الأميركية العراقية العسكرية والأمنية، تمهيدا لطلب ترحيل القوات الأميركية من العراق لتنفرد طهران بالساحة العراقية. وهي حالة ستقود إلى تعقيدات كثيرة خصوصا بعد قرار ترامب الانسحاب العسكري من سوريا والذي أثار غضب واعتراضات بعض القادة الأميركان، وسهل على طهران هذه الاستعراضات من داخل الساحة العراقية.
الغرض الآخر من زيارة ظريف للعراق هو هلع طهران من أي محاولة لفك طوق عزلة العراق عن محيطه العربي وخصوصا الأردن والسعودية والإمارات، حيث كانت زيارة العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، لبغداد تقع ضمن إطار توجه عربي صادق تجاه شعب العراق لحماية عروبته وإعادته كما كان. لذلك فإن احتمال الانفتاح الاقتصادي والتجاري العربي على العراق سيكشف ويقلل من طوفان البضائع الإيرانية الرديئة، ويخفف من حالة الاستفراد الإيراني بالعراق لكي تحافظ على الحدود الدنيا من حالة العجز الاقتصادي في مواجهة العقوبات.
إن القلق الإيراني جدي على المستوى الجيوسياسي الذي يقع العراق في قلبه، خصوصا في ظل الأخبار التي تتحدث عن “ناتو عربي” حتى وإن ما زال في إطار المشاورات، ولو كانت طهران تشتغل بمقاييس الدول التقليدية لأعلنت منذ وقت عن اتحاد العراق وإيران، لكنها تتعاطى بالمفهوم الأيديولوجي المتخلف الذي يجعل من العراق تابعا لإيران في أهم مفصل وهو السياسة الخارجية، ألم يقولوا لأهل الحكم الشيعة بأنهم الفصيل المتقدم “للمقاومة الإسلامية”. مع ذلك فإن نظام ولاية الفقيه يعترف بحجم الأذى الذي تلحقه به السياسات الجديدة لإدارة ترامب.
العراق هو الطرف الأضعف لغياب سيادته
الجغرافيا السياسية حكمت بأن يكون العراق ساحة لعرض القوة أو احتمالات الصدام، وقد يدخل الطرف الإسرائيلي في المعادلة بعدم السماح لقواعد الصواريخ الباليستية بالتمركز داخل الأراضي العراقية، فمثلما تمتلك إيران الميليشيات كقوى غير منضبطة داخل العراق، فإن الولايات المتحدة لديها إسرائيل غير المنضبطة أيضا.
العراق هو الطرف الأضعف لغياب سيادته ولو توفرت حكومة ذات إرادة لتمكنت من تحقيق سياسة النأي بالنفس وإبعاد الأضرار، لكن رئيس الحكومة الحالية عادل عبدالمهدي عليه دين الوفاء لمن جاء به إلى هذا المنصب، وهو في وضع حرج ويسعى للهروب من مواجهة الظروف الصعبة المقبلة ويتمنى لو أن نظام ولي الفقيه يخفف عنه سيطرة الميليشيات المسلحة، وذلك غير مستبعد فإيران تعتبر الميليشيات أداة من أدواتها الأولى وقد تقدمها هدية للأميركان في نهاية المطاف إذا ما وجدت ذلك طريقا لإنقاذها من الأوضاع السيئة التي تنتظرها.
انحياز حكومة عادل عبدالمهدي لإيران سيكلف البلد أثمانا باهظة
وعند ذاك يمكن لحكومة عبدالمهدي أن تتحرر قليلا، وإلا فإن الأوضاع ستسوء وسيتعرض الأمن العراقي إلى تداعيات سيئة وتصادمات مرتقبة بين القرارين الميليشياوي والحكومي، ولعل قرار عبدالمهدي سحب القطعات العراقية أخيرا بعد توغلها مع الحشد الشعبي داخل الأراضي السورية مثال على ذلك.
انحياز حكومة عادل عبدالمهدي لإيران سيكلف البلد أثمانا باهظة، وشعب العراق ينتظر الأمن والخدمات والعيش الكريم، وحتى سياسة الحياد المصطنع ستكون مكلفة فلا حياد ولا انحياز، الحل هو موقف وطني مواجه للعنجهية الإيرانية بطرق دبلوماسية سلسة ومستند على إرادة الشعب مباشرة وليس عبر برلمان وصل أعضاؤه بالتزوير، فهل يفعلها عادل عبدالمهدي ويتحول إلى بطل وطني عراقي؟
المصدر:العرب اللندنية.