بقلم: إياد الدليمي.
منذ اللحظة التي قرّرت أن أكتب فيها عن بغداد التي زرتها أخيرا بعد سبع عجاف من الغياب، وهذا العنوان يلاحقني. أطرده، فتعود صور لبغداد لا تشبه بغداد التي أعرفها، فليس من السهل على ابن بغداد أن يصفها خرائب. ليس من الهين أن تصف مدينتك بالخراب، فما بالك ببغداد التي يحضر تاريخها كاملاً أمام ناظريك، وأنت الذي ولدت وترعرعت بين تلك الدرابين والأزقة التي ما زالت تحمل بين ذرات ترابها وقع أقدام البناة الأوائل.
مؤلم أن تصف مدينة الرشيد، مدينة المنصور، مدينة الشعراء والصور، مدينة دجلة، مدينة السلام، المدورة المسورة، حاضنة مراقد الأولياء والصالحين، الدراويش والزاهدين، والنّساك والعباد، الشناشيل والنوارس، من المؤلم أن تصفها بالخرائب، ولكن؛ هي أمانة الكلمة التي تُجبرنا، في أحيان كثيرة، على نقل الواقع، وإن كان مؤلماً.
منذ اللحظة الأولى لوصولي إلى مطار بغداد، أدركت أن شيئاً لم يتغير، تماماً كما هو منذ سنوات سبع، فبغداد ما زالت تستخدم المطار الذي تم افتتاحه عام 1982، ولك أن تتخيل حالة مطارٍ مضى على بنائه اليوم أكثر من 36 عاماً بكل ما حملته من حروب، كان إحدى أبرز ساحاتها عام 2003، وجرت فيه تفاصيل معركة المطار الشهيرة التي ما زال معظم كواليسها خافياً.
يضيق المطار بك وبالمسافرين، لا لضيق مساحته، وإنما لغياب أيٍّ من أنواع التطوير والتحديث، كما إنه يضيق أكثر إذا ما علمت أن هذا المكان كان ذات يوم ثقباً أسود، كثيراً ما دخله عراقيون لهم مواقف من الاحتلال وحكوماته المتعاقبة، ولم يخرجوا منه.
ما إن تخرج سالماً من ثقب المطار الأسود، حتى تبدأ بغداد تكشف لك عن وجهها المتعب، فهنا لا شيء تغير، منذ 2003، تعيش الناس في المدينة التي كانت قبل نحو 15 عاماً، الطرق نفسها، المباني نفسها، الجسور نفسها. الفرق الوحيد أن هناك زيادة هائلة في أعداد السيارات، وفي عدد سكان المدينة، فبغداد اليوم من بين أكبر مدن العالم في كثافة السكان، تجاوز سكانها السبعة ملايين نسمة، ولك أن تتخيّل كيف يمكن لمدينةٍ لم تغير من ثوبها وبناها التحتية أن تستوعب كل هذه الكثافة السكانية.
الفرق الوحيد بين بغداد ما قبل 2003 وما بعدها أنها ما عادت لأهلها، أمر يمكن أن تدركه وأنت تتجوّل في أحياء المدينة، وأنت تطالع الوجوه، وأنت تسمع اللهجات المختلفة القادمة من الشرق تحديداً، فقد وقع تهجير قسريٌّ طوال السنوات العشر الأولى من الاحتلال الأميركي، فاضطر مئات الآلاف أو ربما الملايين إلى هجرة مدينتهم، وقدم آخرون، وجلبوا معهم ثقافاتهم الخاصة بهم، ثقافاتهم التي لا تمت للعاصمة بصلة.
يحدث أن تحبسك زحمة بغداد ثلاث ساعات متتالية، وخصوصا في أوقات الذروة، فهنا مطبخ بشري هائل، كلٌّ يجلس في سيارته التي لا تتحرّك بانتظار فرجٍ يأتي من مكان ما، ولا فرج، فأغلبية الإشارات الضوئية معطّلة أو لا تعمل بسبب انقطاع الكهرباء، وعندما تعمل لا أحد يلتزم بها.
هنا يمكن أن تشاهد غياب القانون في كل تفصيلةٍ تمر بك، فهذه المدينة تعيش الفوضى بأبشع صورها، يمكن أن يقطع الطريق رتلٌ عسكري، يمكن أن ينزل أحد المسؤولين، ويضرب شرطي المرور ويعتدي عليه، لأنه حاول إيقاف مسيرة موكبه المبارك، هنا لا وجود للدولة وهيبتها أو القانون وحكمه.
بغداد الخربة يمكن أن تشاهدها في تلك الأبنية المتربة، والتي تغيرت نمطية عمارتها بطريقة مشوّهة، لا تمت للعمارة البغدادية بصلة، وصارت كتلا إسمنتية، تغطيها الأتربة التي لا تزول حتى مع أعتى موجات المطر التي ضربت بغداد.
وعلى ذكر الأبنية، تعيش بغداد فوضى عمرانٍ لم يسبق لها مثيل، فالعشوائيات انتشرت في أغلب أحياء العاصمة، حيث استغل العراقيون الفوضى وغياب القانون، وبنوا بيوتا في أراضٍ عديدة داخل العاصمة وحولها، بل الأكثر من ذلك، اعتدى المواطنون على أرصفة الشوارع، وقاموا بالبناء والتشييد عليها، من دون أدنى مسؤوليةٍ في غياب أي سلطة قانونية تمنعهم، في حين تم تجريف عشرات البساتين الخضراء، وباع ملاكها أراضيهم للمواطنين، من دون أي سند قانوني، فهنا لا أحد يخاف الدولة، ولا قوانينها.
ولن أتحدّث هنا عن واقع الصحة في العراق، فذاك يمكن أن تسمعه من أهل الشأن، العراقيون الذين يفقدون أحباءهم نتيجة أخطاء طبية، أو تشخيص مغلوط، نتيجة انتهاء صلاحيات الأدوية، نتيجة غياب الخدمات والرعاية داخل المستشفيات، نتيجة غياب الأجهزة الطبية الحديثة.
تحار وأنت تشاهد كل هذا الخراب: أين ذهبت الألف مليار دولار، ميزانيات العراق خلال خمسة عشر عاماً؟ أين ذهبت ثروات العراق طوال عقد ونصف العقد؟ قبل أن تستذكر تقارير منظمة الشفافية الدولية التي كانت تصنف العراق الأكثر فساداً في العالم، وقبل أن تستمع لنائب عراقية، جاءت إلى البرلمان لا تملك سوى بيت مؤجر، كانت تستدين حتى أجرته، لتقول لك إن أموال الطبقة السياسية في العراق قادرةٌ على أن تعيد بناء العراق بالكامل، ولا داعي أن تسال النائبة عن مصدر ثروتها، وثروة زملائها، أبطال العملية السياسية.
المصدر: العربي الجديد.