بقلم: عدنان حسين.
سجّلت بغداد لنفسها عشيّة العام الجديد أنها العاصمة الأكثر احتفالاً بمقدمه. الذين نزلوا إلى شوارعها تلك الليلة قُدّروا بأربعة ملايين نسمة. هذا يزيد على نصف عدد سكانها، فيما – للمقارنة – قُدّر عدد المحتفلين على ضفتي نهر التيمز في لندن بمائة ألف نسمة.
ربما كانت ثمة مبالغة في التقدير، لكنّ المؤكد أن الاحتفال البغدادي كان مليونياً، وهو ما يحصل للمرة الأولى في تاريخ هذه المدينة بالمناسبة إيّاها.
غصَّت شوارع الأحياء الرئيسية، الكرادة والجادرية والمنصور وزيونة والأعظمية، بالمحتفلين من الجنسين وكل الأعمار، بل امتدّت الاحتفالات إلى بعض الأحياء الشعبية المزدحمة. المدن الكبيرة الأخرى، كالموصل والبصرة ومدن إقليم كردستان اجتاحتها كذلك احتفالات كبيرة على نحو لافت، والأهم أن المدن الموصوفة بأنها مقدّسة (دينية) كالنجف وكربلاء وسامراء اكتسحتها الموجة هي أيضاً. ولوحظ أن مدن المنطقة الغربية المعروفة بحياتها الاجتماعية المحافظة، كالرمادي، احتفلت كذلك… بالمختصر العراق كلّه استقبل العام الجديد كما لم يحصل في تاريخه.
هذا وراءه «سرّ»، فالاحتفالات المبالغ فيها كانت رسالة من العراقيين إلى كلّ من مفتي الديار العراقية مهدي الصميدعي ورئيس الوقف الشيعي علاء الموسوي اللذين توافقا في التصريح بحرمة تهنئة المسيحيين في عيد ميلاد المسيح والاحتفال بمقدم السنة الجديدة، ما استفزّ الكثير من العراقيين، وبخاصة جيل الشباب الحانق على أوضاع البلاد المُزرية. لكنّ رسالة بهذا التعبير المُكثّف إنما تتجاوز رجلي الدين السنّي والشيعي إلى سائر المؤسسات الدينية المحافظة وأحزاب وجماعات وميليشيات الإسلام السياسي الحاكمة التي سعت على مدى خمس عشرة سنة لمحو مدنية المجتمع العراقي وتعديل نزوعه العلماني.
على الدوام كان العراقيون من سكان المدن الكبيرة التي عاش فيها المسيحيون مع المسلمين، فضلاً عن اليهود والصابئة المندائية وجماعات دينية أخرى، يهنّئون المسيحيين وسواهم بأعيادهم مثلما يفعل غير المسلمين في أعياد المسلمين ومناسباتهم الدينية.
والمسيحيون العراقيون بالذات، وكذا اليهود، كانت لهم أدوار مميّزة في الحياة الاجتماعية في المدن منذ مطلع القرن الماضي بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، فمنهم أوائل الأطباء والمعلمين والمهندسين والحرفيين، كما منهم رواد الثقافة والفكر والصحافة والفن والسياسة الذين أرسوا دعائم نهضة عراقية توازت في مستواها مع نهضة مصر ولبنان.
لم تكن هناك حساسية لدى العراقيين حيال تهنئة المسيحيين وسواهم بأعيادهم وحتى مشاركة البعض فيها. أمّا احتفالات رأس السنة التي ظلّت حتى أواسط القرن الماضي مقتصرة على النخبة المدينية بصرف النظر عن ديانتها، بدأ نطاقها يتوسّع منذ أواسط عقد الستينات، ومما ساعد في ذلك البثّ التلفزيوني المبكر الذي بدأ في العراق قبل أي بلد عربي آخر (1956). وفي السبعينات وبعدها صار شائعاً إحياء حفلات الميلاد ورأس السنة ليس في بيوت المسيحيين والمسلمين فقط، وإنما أيضاً في النوادي الاجتماعية التي ازدهرت في العاصمة بغداد والمدن الكبيرة الأخرى حينئذ، وكان كبار المغنين والموسيقيين يُحيون الحفلات التي تتواصل إلى فجر اليوم التالي الذي جعلته الدولة يوم عطلة وطنية. وكان يجري الإعلان عن أماكن ومواعيد الحفلات عبر الصحف اليومية.
النظام الجديد، بعد 2003، الذي قدّم نفسه بديلاً لديكتاتورية صدام المتوحّشة، تعرّض معه المسيحيون وسائر ما يُعرف بالأقليات الدينية إلى سياسة تمييز لم يشهد العراق لها مثيلاً إلا مع اليهود الذين هُجّروا عنوة من البلاد منتصف القرن الماضي. هذا التمييز أرسته جماعات الإسلام السياسي الحاكمة، ما دفع بمئات الآلاف من المسيحيين للهجرة خارج العراق أو إلى إقليم كردستان. وظهر لاحقاً أن من دوافع الحملة ضد المسيحيين وسواهم حملهم على التخلّي عن عقاراتهم وأعمالهم وتركها لتستحوذ عليها قوى متنفّذة في السلطة وعناصرها، أو بيعها بأسعار متدنية.
المسيحيون كانوا أيضاً هدفاً مباشراً للجماعات الإرهابية التي نشطت في العراق، وبخاصة «القاعدة» و«داعش»، فقد جرى تفجير الكثير من الكنائس في عمليات انتحارية في بغداد والبصرة والموصل ومدن أخرى.
الحملة ضد المسيحيين بدت السلطة العراقية عاجزة عن مواجهتها، لكنّها لاقت استهجاناً شديداً من العراقيين، وبخاصة النخبة منهم، الذين حرص الكثير منهم على إظهار التضامن والتعاطف العلني معهم. قوى الإسلام السياسي والمؤسسات الدينية المحافظة التي تنفّذت في الحكم بعد 2003 تراجعت شعبيتها كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب فشلها الذريع في إدارة الدولة، وتفشّي مظاهر الفساد الإداري والمالي في صفوفها، ما أثار نقمة الناس عليها، وهو ما تبدّى في نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة (مايو /أيار/ 2018) التي قاطعتها أغلبية الناخبين، ثم في حركة الصيف الاحتجاجية الكبيرة التي مثّلت امتداداً للحركة المتجددة سنوياً منذ 2011، وتركّزت في المحافظات الجنوبية والوسطى (الشيعية).
الاحتفال العراقي الأسطوري بمقدم العام الجديد هو رسالة شعبية أخرى بالغة القوة إلى رجال الدين المحافظين ومؤسساتهم وأحزاب الإسلام السياسي. الرسالة تقول بوضوح إن العراقيين لا يرغبون في الحكم الديني، إنهم يستفتون لعلمانيتهم ولمدنيتهم. هذا ما فهمته جيداً المرجعية الشيعية العليا، وهي مؤسسة معتدلة نسبياً بالمقارنة مع غيرها، فالمرجع الأعلى علي السيستاني لم يتأخر في إصدار فتوى مضادّة لما صرّح به مفتي الديار ورئيس الوقف الشيعي، ويوم الجمعة الماضية أكد خطيب كربلاء، وهو من أبرز ممثلي السيستاني، فتوى المرجع الأعلى، بل إنه نددّ بقوّة بفتاوى التحريم معتبراً إياها «تسقيطاً خطيراً» لواحد من مكونات المجتمع العراقي مهدّداً للسلم الأهلي.
بالتأكيد لن تسعى أحزاب الإسلام السياسي والمؤسسات الدينية المحافظة إلى فهم مضمون رسالة رأس السنة لتعدّل من سياساتها الفاشلة… هذا ستكون له نتيجة واحدة هي مواجهة مأزق أكبر من مأزقها الراهن.
المصدر: الشرق الأوسط.