بقلم: لويز ريدفيرس.
طالما عُدت الإمارات وجهة للأجانب أصحاب المهن الساعين لدخل مرتفع، لكن المغتربين على أرض الواقع يقولون إن الأمور في الإمارات لم تعد كسابق عهدها.
في عام 2016، قررت أليسون سايمونز، مستشارة الاتصالات، أن تغادر موطنها بالمملكة المتحدة، لتستقر في دبي، حيث الشمس الساطعة، والحياة الاجتماعية الأكثر تفاعلا ونشاطا. لكن لم يكد يمضي عامان حتى عادت سايموندز إلى المملكة المتحدة.
وتقول سايمونز إنها أمضت 12 شهرا في البحث عن وظيفة مناسبة، رغم أنها كان لديها شبكة معارف شخصية ومهنية لا يستهان بها في الإمارات، وحتى الوظيفة التي عثرت عليها كانت بعقد مؤقت لمدة عام.
وبالرغم من أن صافي دخلها في الإمارات كان أعلى منه في المملكة المتحدة، لأن الإمارات لا تفرض ضريبة على الدخل، إلا أنها لم تشعر بالأمان الوظيفي بحكم عملها بعقد محدد المدة. وكانت تضطر لدفع إيجارات باهظة لمسكنها وسيارتها بموجب عقود إيجار قصيرة الأجل.
وقبل ثمانية أسابيع من انتهاء عقدها، شرعت سايموندز، البالغة من العمر 45 عاما، في البحث عن وظيفة جديدة. وتقول: “لم أجد أي وظيفة براتب معقول، ولهذا قررت العودة إلى بلدي”.
وتردف قائلة: “أود أن أعود إلى هناك مستقبلا، ولكنني أرى أن الأوضاع الآن غير مواتية للعودة والعمل هناك من جديد، إذ زاد عدد المغتربين الذين يغادرون البلاد، ويجد كثير من المهنيين المهرة وذوي الخبرة صعوبة بالغة في العثور على وظائف جديدة”.
أصحاب الشركات وسوق العمل
يضم هذا البلد الغني بالنفط ملايين المغتربين، على اختلاف مستوياتهم وجنسياتهم، الذين أغرتهم الدخول المعفاة من الضرائب والشمس الساطعة طوال العام على الانتقال للعيش فيه.
ويعيش معظم الأجانب في أبو ظبي ودبي، مركزي المال والأعمال في الإمارات، واشتهرت دبي أيضا بمنتجعاتها الفاخرة ومبانيها الشاهقة، ومراكز التسوق البراقة، التي جعلت منها وجهة جاذبة للسياح.
وأسهم المغتربون في بناء وإعمار الإمارات التي لم يكن عدد سكانها في عام 1980 يتعدى المليون نسمة، ووفقا لآخر إحصاء يبلغ عدد سكانها اليوم 9.5 مليون نسمة.
وعُرفت الإمارات لسنوات طوال بأنها مقصد للمهنيين الراغبين في الحصول على رواتب مرتفعة ومزايا سخية، مثل بدلات السكن والتعليم لأبنائهم، والرعاية الصحية، وسيارة تحت تصرفهم، وتذاكر السفر، وهذا يتيح للمغترب، الذي لا يعيش حياة الترف والرفاهية، أن يدخّر بعض المال.
إلا أن تعثُر الاقتصاد الإماراتي تحت وطأة تدني أسعار النفط أدى إلى ركود قطاع العقارات وتخفيض الرواتب.
وتقول كارين يوزييل، محللة بوحدة الأبحاث وتحليل المعلومات التابعة لمؤسسة “الإيكونوميست”: “بالرغم من تعافي أسعار النفط عالميا في عام 2018، فإن النمو الاقتصادي لا يزال متواضعا”.
ويعزى ذلك على حد قولها إلى قرار منظمة “أوبك” بخفض إنتاج النفط، بالإضافة إلى عوامل جيوسياسية أخرى، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر، والعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، التي أثرت على التبادل التجاري بين البلدين، ولا سيما المصالح التجارية الإيرانية في دبي.
وتضيف يوزييل أن ضريبة القيمة المضافة، التي فرضتها الحكومة في يناير/ كانون الثاني بنسبة 5 في المئة، في محاولة لسد الفجوة في الإيرادات التي خلفها تدني أسعار النفط، أسهمت في تغيير نظرة رواد الأعمال للإمارات التي باتت تعد واحدة من مراكز المال والأعمال العالمية. كما أثّرت الضريبة على الاستهلاك الخاص بشكل واضح، إثر ارتفاع أسعار المأكولات والأنشطة الترفيهية والسلع الاستهلاكية.
نظريا، توقع صندوق النقد الدولي في أحد تقاريره أن يحقق الناتج المحلي الإجمالي في الإمارات سنة 2019 نموا بنسبة 3.7 في المئة، ولكن مؤشر بنك الإمارات دبي الوطني لمراقبة حركة الاقتصاد، كشف في نوفمبر/ تشرين الثاني عن تراجع نمو القطاع الخاص إلى أدنى مستوى له منذ عامين ونصف، وشهد مؤشر التوظيف أيضا تراجعا للشهر الثاني على التوالي.
وأشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” في مقال حديث، إلى أن الكثير من المهنيين، ولا سيما أصحاب الدحول المرتفعة، تركوا وظائفهم في دبي فيما أطلق عليه بعض الاقتصاديين ظاهرة “استنزاف المهنيين”.
لكن أحد الخبراء الاقتصاديين الإماراتيين يقول إن هذا المقال ينطوي على بعض المبالغة، رغم أنه يشعر بتفاؤل حذر حيال النمو الاقتصادي، إذ يرى أن الاقتصاد الإماراتي يخضع لبعض “الاجراءات التصحيحية” مع بلوغه مرحلة النضج.
ويقول كريس غريفز، المدير المنتدب لمؤسسة “هايز” للتوظيف في الشرق الأوسط إن الشركات الآن في الإمارات “باتت أكثر حرصا على ترشيد الإنفاق من أي وقت مضى”.
ووفقا لتقرير الرواتب والتوظيف الذي أعدته مؤسسته في عام 2018، ذكرت ثلث الشركات التي شملتها الدراسة أنها تقلّص عدد الموظفين، بينما ذكر أكثر من نصف عدد الشركات أنها لا تنوي رفع رواتب الموظفين.
ويقول غريفز: “بعض المؤسسات تخفض رواتب الموظفين بدلا من تسريحهم. واعتدنا الآن أن نرى شركات تعرض على المتقدم للوظيفة راتبا أقل من حزمة المزايا التي يحصل عليها، ومع ذلك يقبل العرض. ففي ظل التنافس الشرس على الوظائف، أصبح أصحاب الشركات يُملون شروطهم في سوق العمل”.
تقليص الرواتب
تقول روهيني غيل، إحدى شركاء مؤسسة “جي جي سي كونسالتنسي” لإدارة الموارد البشرية، إن سوق العمل في الإمارات مرّ بتغيرات كبيرة، في السنوات القليلة الماضية.
وتضيف غيل: “لم تعد الإمارات المكان المناسب للباحثين عن الثراء كما عهدناها في الماضي، إذ لن تحصل في الإمارات على المزايا السخية التي كان يحصل عليها أقرانك سابقا، مثل بدلات تعليم الأبناء في المدارس، والتأمين الصحي، وبدل السكن، وما إلى ذلك. وفي ظل ارتفاع تكاليف المعيشة في الإمارات، يرى الكثيرون أن العمل هناك لم يعد مجديا من الناحية المالية”.
إلا أن التنافس لا يزال شرسا على الوظائف في دبي، إذ تتلقى الشركات عن الوظيفة الواحدة المعلن عنها، على حد قول غيل، ما يصل إلى 5000 طلب، وينحدر أكثر المتقدمين من جنوب شرقي آسيا ويطلبون رواتب أقل من نظرائهم في الدول الأوروبية.
وتقول ستيفاني هيوز، محررة محتوى رقمي من بلدة هارتلبول بالمملكة المتحدة، وقد انتقلت إلى دبي برفقة زوجها الذي يعمل في قطاع الإنشاءات منذ أربع سنوات: “يشهد السوق تباطؤا حادا في الوقت الحالي، وقد رحل الكثيرون عن البلاد بعدما عجزوا عن العثور على وظائف أو على الأقل وظائف برواتب مجزية”.
وتضيف هيوز، وهي أم لطفلين: “جميع الشركات التي تقدمتُ للعمل لديها عرضت عليّ راتبا أقل من راتبي الحالي بنسبة 25 في المئة أو 30 في المئة، وهذا لا يكفي لتلبية احتياجاتنا المعيشية لأننا نتكفل أيضا بمصاريف المدارس وأقساط التأمين الصحي”.
وشتان ما بين الإمارات الآن وبينها في الأيام الخوالي، عندما كانت مقصدا للباحثين عن الثراء السريع. ويقول أحد مديري التسويق الرقمي، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، حتى لا يعرض مستقبله المهني للخطر، إن اتخاذ إجراءات لخفض الرواتب الفلكية كان أمرا طبيعيا تماشيا مع نضج السوق.
ولكنه يرى أن المشهد في الإمارات تبدل من النقيض إلى النقيض. ويقول إن تطلعات الشركات شيء ومواردها شيء آخر.
ومنذ أن انتقل للعيش في دبي، منذ عشر سنوات، تنقل مدير التسويق البالغ من العمر 45 عاما، بين 6 وظائف، ورغم أن راتبه الآن في الإمارات أعلى منه في المملكة المتحدة، إلا أن الدخل الذي كان يتقاضاه عند مجيئة إلى الإمارات كان أعلى من دخله الحالي، فضلا عن أنه أمضى 14 شهرا بلا عمل قبل أن يشغل منصبه الحالي.
ويقول: “كانت فترة عصيبة من حياتي، أنفقت خلالها جزءا كبيرا من مدخراتي”. كما أحيلت زوجته للتقاعد بعد انتهاء إجازة الوضع، مما زاد من الضغوط الملقاه على كاهله.
إلا أن هذين الزوجين اللذين استقرا الآن في دبي لا يفكران دائما في العودة إلى موطنهما، مع أنهما لا يمتلكان منزلا ولا المال الكافي للانتقال، ولم يجدا بعد المدرسة المناسبة لأطفالهما.
ويقول: “إذا مكثت في هذا البلد لفترة طويلة، ستحتاج لوضع خطة للخروج منه، وستشعر أنك منهك نفسيا”.
عاملون بأجور زهيدة
منذ ثلاث سنوات، جاءت هانا زارا باتي إلى دبي لزيارة أمها التي تعمل في الإمارات منذ نحو ثلاثة عقود، وعثرت على وظيفة مديرة حسابات التواصل الاجتماعي لمتجر أزياء شهير.
وتشغل الشابة البالغة من العمر الآن 28 عاما منصب مديرة تسويق لأحد الفنادق الكبرى، براتب 10.000 درهم شهريا ما يعادل 2.720 دولارا، أي ثلاثة أضعاف ما كانت ستتقاضاه لو عملت في الفلبين.
ويرى بعض المغتربين من الدول الغربية أن العاملين الذين يرضون برواتب أقل من رواتبهم مثل باتي يمثلون تهديدا لمستقبلهم المهني. وتقول باتي نفسها إنها تتقاضى أجرا أقل من نظرائها من الجنسيات الأخرى.
وتقول غيل إنها صادفت عاملين هنود حاصلين على ماجيستير في إدارة الأعمال ولا يمانعون أن يشغلوا منصب مساعدين ماليين براتب 7.000 درهم شهريا، ما يعادل 1.900 دولار، في حين أن الأوروبيين الذين شغلوا هذه الوظائف سابقا، كانوا يحصلون على ضعف هذا الراتب، وأحيانا من دون مؤهلات عليا.
وترى باتي أن جنسيتها جعلتها مرغوبة من أصحاب العمل الحريصين على تخفيض النفقات ولكنها في الوقت نفسه تشعر أنه ليس من العدل أن تحدد الشركات الأجور بحسب لون جواز السفر.
وتقول باتي: “رغم سعادتي بالوظيفة، إلا أن تكاليف المعيشة هنا باهظة، ولا أرسل لأهلي في الفلبين إلا القليل من المال، ولكنني لا أفكر في العودة إلى موطني، نظرا لتدني الأجور والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية هناك”.
ويقول غريفز إن الرواتب في الإمارات حتى بعد تراجعها، لا تزال أعلى منها في البلدان التي ينحدر منها العاملون المغتربون، مثل المملكة المتحدة، وأوروبا، وأستراليا، والولايات المتحدة، والأهم من ذلك أنها معفاة من الضرائب.
ويضيف: “لا تزال الإمارات جاذبة للمغتربين، حتى لو لم توفر الشركات مزايا ضخمة، إذ نتلقى حتى الآن آلاف السير الذاتية من مختلف أنحاء العالم”.
ليست تلك هي المرة الأولى التي تهتز فيها دعائم الاقتصاد الإماراتي، ففي عام 2009، كانت دبي من أبرز البلدان المتضررة من الأزمة المالية العالمية. وبين عشية وضحاها، انهارت السوق الإماراتية بعد أن كانت في أوج ازدهارها، ما حدا بالحكومة إلى اتخاذ خطوات لإعادة البناء وفرض تشريعات جديدة صارمة لتقليص النفقات المفرطة.
وبهدف انتشال الاقتصاد من الركود والكساد، أعلنت الحكومة عن مجموعة من السياسات الجديدة التي تجاوزت قيمتها 13 مليار دولار، لتحفيز المستثمرين على الاستثمار في الإمارات، وكان من بينها فتح بعض قطاعات الأعمال على مصراعيها أمام الأجانب لتملك الشركات ملكية كاملة، وتطبيق نظام أكثر مرونة للحصول على تأشيرة البقاء في الإمارات، وتخفيض رسوم تسجيل الشركات وغيرها من المصاريف الإدارية.
وهذه الخطوات من شأنها إغراء المستثمرين على تدشين شركات جديدة ومساعدة الشركات القائمة في الحفاظ على موظفيها أو زيادة أعدادهم. ومن المتوقع أن يظل التنافس على أشده في سوق العمل.
وتقول غيل: “يجب أن تجري دراسة وافية قبل قبول عرض وظيفي هنا، فإن تكاليف المعيشة باهظة، ولدينا أصدقاء جاؤوا إلى هنا بنية الادخار ولكنهم بددوا مدخراتهم في نهاية المطاف لتغطية نفقاتهم المعيشية”.
وبعد أن عادت للملكة المتحدة، لا تشعر سايموندز بالندم على الوقت الذي أمضته في الإمارات، إلا أنها تحذر غيرها من المجازفة بإهدار فرص في مواطنهم من أجل الحصول على وظيفة هناك.
وتقول: “لا أنصح أحدا بالذهاب إلى هناك للبحث عن وظيفة دون سيولة نقدية كافية لأنك سرعان ما ستضطر للاستدانة لتأمين نفقات إقامتك في المدينة”.
وتضيف: “لقد ولت تلك الأيام التي كانت فيها دبي مضرب المثل في البذخ والثراء وفات آوانها منذ أن وطأت قدماي المدينة في عام 2016، ويمكنني القول إن حلم الثراء السريع في دبي أصبح بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا”.
المصدر: BBC.