بقلم: سعد كيوان.
لمفاجآت في سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا تنتهي، وخصوصا في الشرق الأوسط، فبعد إعلانه عن سحب القوات الأميركية من سورية، ظهر ترامب من دون مقدمات في قاعدة عسكرية أميركية، في محافظة الأنبار غرب العراق. ودافع من هناك عن قراره، قائلا بشكل مثير إن “الكثيرين سيقتنعون بطريقة تفكيري.. لقد حان الوقت لكي نبدأ في استخدام عقولنا”. ويحضر هنا سؤال بديهي بشأن ما إذا كان ترامب إلى غاية اليوم لم يستعمل عقله؟ وفي الحالتين، لا يبدو ما اتخذه من قرارات وخطوات، وما ساقه من مواقف منطقية أو سهلة الاستيعاب. ويؤكّد، في المقابل، أن “ليس لدى الولايات المتحدة أي خطط لسحب قواتها من العراق”، مضيفا كلاما آخر لافتا ومفاجئا، إذ قال إن “العراق سيشكل قاعدة لنا إذا أردنا القيام بشيء ما في سورية”؟!
ما هو الشيء الذي يمكن أن يقوم به ترامب في سورية، ويفترض أنه من طبيعة عسكرية؟ ولماذا قرّر، إذا، الانسحاب من سورية، طالما أنه من الممكن أن يعود إليها؟ فاجأ قرار الانسحاب من سورية الجميع، وخصوصا المعنيين مباشرة بالأزمة، والموجودين على أرض الميدان، بدءا من موسكو التي شكّكت بجدية القرار، كما عبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مرورا بأنقرة التي غرّدت فرحا (ترامب لأردوغان: “سورية كلها لك”) لأنه أصبح في وسعها الاستفراد بالأكراد، أي قوات سوريا الديموقراطية (قسد) في شمال سورية التي كانت تحظى بدعم القوات الأميركية. ولكن أنقرة، في الوقت عينه، تعرف في قرارة نفسها أن المهمة ليست سهلة، ولن تكون وحدها في الميدان. ناهيك عن طهران و”حرسها الثوري” ومليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية التي يصرّ ترامب على إخراجها من سورية، وإذا بالساحة تخلو لها. وأخيرا إسرائيل التي قرّرت، على الفور، أخذ زمام المبادرة وملء الفراغ، عبر العودة إلى شن غاراتها على مواقع إيرانية ومخازن أسلحة لحزب الله في محيط دمشق. وقد بدا في الظاهر أن كل هؤلاء مسرورن بقرار الانسحاب، وتحديدا ما يسمّى “محور الممانعة”، معتبرين أنهم حققوا نصرا على “المستعمر الإمبريالي”، علما أنه ليس لواشنطن أكثر من ألفي جندي على الأراضي السورية، وكانت قادرة بهذا العدد القليل على ضبط معظم محاور الصراع والمواجهة. ستترك أميركا عمليا ثلث مساحة سورية، في شرق نهر الفرات، وقاعدة التنف، ومدينة منبج. وفي هذه المناطق عشرات الآلاف من المقاتلين العرب والأكراد، وفيها بقايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإجراءات وترتيبات إدارية واقتصادية، بقيادة الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وبنية عشائرية عربية. كما أنها تلامس الحدود السورية – العراقية – التركية، والحدود السورية – العراقية -الأردنية، وتحتوي على 90% من النفط السوري الذي كان إنتاجه يبلغ 360 ألف برميل قبل 2011، وعلى نصف الغاز السوري، ومعظم القطن والحبوب، والسدود السورية الثلاثة الكبرى. وفيها أيضاً يمر الطريق البري من إيران إلى العراق نحو سورية ولبنان. ويشكّل هذا الطريق شريانا حيويا استراتيجيا لسياسة التوسع التي يسعى إليها الملالي منذ تدخلهم في سورية من أجل مد نفوذهم، وتمدد مليشياتهم عبره شرقا. إنها تختصر “سورية المفيدة” استراتيجياً وعسكريا واقتصاديا!
لماذا انسحب، إذن، ترامب، وسارع إلى زيارة العراق، ليؤكد من هناك على بقاء قواته في الأنبار، وليعلن أن العراق يشكل قاعدة للتدخل في سورية، عندما يلزم الأمر؟ وهل أراد بانسحابه أن يخلق دينامية جديدة تؤدي إلى قلب الطاولة على رؤوس الحلفاء – الخصوم، ذات الحسابات والمصالح المتضاربة؟ لقد حوّل هؤلاء سورية إلى مجموعة “سوريات”، تتنازعها وتتقاسمها جيوش أربع دول على حساب الشعب السوري المقموع والجريح والمشرّد في أصقاع الأرض. تدخل قيصر الكرملين لحظة انكفاء أميركا، لكي يحقق طموحه بإثبات أن روسيا قوة عظمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكي يستعيد نفوذه في الشرق الأوسط، بعد إخراجه من مصر وليبيا والعراق. وما تريده طهران مشابه، مع فارق أنها قوة إقليمية، يتوسع نفوذها باضطراد، نتيجة انعدام أي مشروع حداثي للتطور والتكامل العربي. وبسبب فشل كل سياسات الدول العربية وتجاربها وأنظمتها القومية والملكية في إيجاد استراتيجية تحرير واستنهاض، وتركت فلسطين لمصيرها وللمزايدات الأيديولوجية والدينية البائسة، ولصراع المصالح والحسابات الإقليمية والدولية. ونموذجا للفشل العربي، ها هي دولة الإمارات تعيد فتح سفارتها في دمشق، وكذلك البحرين، بحجة إعادة سورية الى الحظيرة العربية، ولكنها خطوة تعيد الاعتبار لنظام بشار الأسد القاتل شعبه والمدمر للدولة السورية الموحدة، والذي وضع نفسه في خدمة المشروع الإيراني في المنطقة. وها هي طهران تسرح وتمرح في سورية، وتجهد لمنافسة موسكو التي سيطرت على الأرض، وعلى القرار السوري، بعد أن تدخلت عسكريا لإنقاذ بشار في سبتمبر/ أيلول 2015، وتمكنت من قلب موازين القوى، وتفتيت قوى المعارضة، وإعادة بعض الحياة إلى النظام. غير أن سورية اليوم تختلف عن سورية ما قبل الثورة، إذ أصبح قرارها بالكامل بيد روسيا، فهي تقرّر كل شيء. سلمتها صواريخ “إس 300” للتصدّي للغارات الإسرائيلية، وهي التي تمنعها من استعمالها، وهي التي تعطي “الداتا” لإسرائيل عن القواعد الإيرانية ومستودعات السلاح وذخيرة حزب الله، حتى تقصفها، فكيف لطهران أن تنافس موسكو التي باتت تستأثر بالقرار، بعد أن قرّرت واشنطن الانسحاب، وتضبط حركة إسرائيل، بعد أن ضمنت لها الأمن بإبعاد القوات الإيرانية نحو مئة كيلومتر عن حدودها الشمالية مع الجولان. وتمسك، في المقابل، بيد الرئيس التركي، أردوغان، الذي استعان الأكراد عليه بطلب الحماية من قوات النظام السوري، ودعوتها للدخول إلى منبج التي يسيطرون عليها، خوفا من مهاجمة الجيش التركي لهم.
أما بالنسبة للحل السياسي للأزمة، فيعلم الرئيس الروسي، بوتين، أن لا بديل عن “جنيف -1” وقرار مجلس الأمن 2254، كما أن تحقيق الحل غير ممكن، وكذلك إعادة الإعمار، بدون موافقة الإدارة الأميركية، فهل على هذه الخريطة السورية المرقطة والمعقدة يراهن ترامب بأن تغرق بانسحابه كل الأطراف في الرمال السورية، ويروح كل طرفٍ من الحلفاء المتنافسين يتحيّن الفرصة للآخر.
تشكل سورية حجر الزاوية بالنسبة لاستراتيجية النظام الايراني في التوسع شرقا، وصولا إلى ضفاف المتوسط، إلا أن هذا الهدف لن تقبل الولايات المتحدة وروسيا السماح بتحقيقه، فهل هناك تواطؤ ضمني بين موسكو وواشنطن اللتين تريدان التخلص من الوجود الإيراني؟ أما ماذا يعني قول ترامب إن العراق يشكل قاعدة للعودة إلى سورية، فربما يجسده وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، قبل استقالته: “وجود روسيا في المنطقة لا يمكن أن يحل محل الالتزام الطويل والدائم والشفاف للولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط. التزام أكرر تأكيده بلا تحفظ”!
المصدر: العربي الجديد.