بقلم: ديفيد روبسن
بالنسبة للبعض الطريق إلى السعادة رحلة لا هوادة فيها وكلما حاولت أكثر تحصل على المزيد.
فكر فقط فيما تقوله إليزابيث غيلبرت في مذكراتها الملهمة الأكثر مبيعاً: (طعام..صلاة..حب)، حيث تروي بعض النصائح نقلاً عن معلمها فتقول:”إن السعادة تأتى نتيجة جهد شخصي. أنت تقاتل من أجلها. تسعى اليها”.
تصر عليها وأحياناً تجوب العالم بحثاً عنها”. وتواصل:” يجب عليك أن تشارك على نحوٍ مثابر في التعبير عن النعم التي تتمتع بها. فإذا ما وصلت لحالة السعادة يتعين عليك بذل مجهود جبار للابحار قدماً وللأبد في طريق السعادة كي تبقى طافياً في القمة فإن لم تفعل فسوف يتسرب منك رضاك الفطري”.
ورغم أن هذا النوع من السلوك قد يكون فعالاً بالنسبة للبعض، تظهر أحدث الدراسات العلمية أنه قد يعود بنتائج عكسية على بعض الأشخاص فيؤدي مثلاً للشعور بالتوتر والوحدة والفشل الشخصي. وحسب وجهة النظر هذه يفضل النظر للسعادة على أنها طائر بري كلما حاولت جاهداً الإمساك به، كلما طار بعيداً أكثر.
هذه النتائج تساعد في شرح مشاعر التوتر والإحباط المألوفة لدى البعض خلال المناسبات الخاصة مثل أعياد ميلادهم أو الكريسماس أو اليوم الأخير من العام. الا أن الدراسة خلصت أيضاً الى نتائج معمقة بشأن سعادتك على المدى البعيد مع بعض الإرشادات المفيدة لتنظيم الأهداف الأوسع لحياتك.
مساعدة أم عائق؟
انت ايرس مواس التي تعمل الآن في جامعة كاليفورنيا واحدة من أوائل علماء النفس الذين أخضعوا الفكرة للبحث العملي.
وتقول مواس إن ما ألهمها كان القدر الهائل من كتب المساعدة الذاتية التي نُشرت في الولايات المتحدة خلال العقدين الأخيرين حيث تناولت العديد من هذه الكتب “السعادة” كشرط لا غنى عنه وتضيف:” أينما نظرت، ترى كتباً عن فائدة السعادة لك وكيف يمكن لك أن تصبح أكثر سعادةً كما لو كان الأمر واجباً تقريبا”.
ولكن هل تضع هذه الكتب الناس على طريق الإحباط؟ تجيب مواس :” يضع الناس معايير عالية جداً لسعادتهم فيعتقدون أنهم يجب أن يكونوا سعداء طوال الوقت أو أن يكونوا في غاية السعادة وهذا قد يؤدي يؤدي إلى الشعور بخيبة أمل إزاء أنفسهم لأنهم فشلوا في تحقيق مرادهم وبالتالي يتعرضون لآثار هزيمة الذات.
وتتساءل مواس اذا ما كان سؤال بسيط عما اذا كنتُ سعيدا؟ من الممكن أن يخلق وعياً ذاتياً يمكنه أن يقوض المشاعر التي تحاول زرعها في نفسك؟
اختبرت مواس مع ثلاثة من زملائها الفكرة من خلال سلسلة من الدراسات. فأجرت استطلاعاً مفصلاً على سبيل المثال سألت من خلاله المشاركين تقييم بعض المواقف مثل:
•مقدار سعادتي في لحظة معينة يؤشر إلى حد كبير على كيف أن حياتي جديرة بالاهتمام
•كي يكون لي حياة ذات مغزى، أحتاج للإحساس بالسعادة طوال الوقت.
•أقدر الأشياء في الحياة بقدر ما تؤثر على سعادتي الشخصية.
وكما هو متوقع، توصل الفريق الى أنه كلما أيد المشاركون بقوة هذه المشاعر كلما قل رضاهم عن حياتهم في الوقت الراهن.
الصورة كانت معقدة بسبب ظروف المشاركين. فبالنسبة للأشخاص الذين عاشوا أحداثاً ضاغطة كالفقد مثلاً لا يحدث الموقف من السعادة أي فرق ولهذا فإن الرغبة في السعادة لا تجعلك بالضرورة تشعر بحالٍ أسوأ عندما تكون ظروفك حقيقةً صعبة الا أنها من الممكن أن تقضي على مشاعر القناعة التي تنمو بشكلٍ طبيعي في الأوقات الجيدة.
كانت الخطوة التالية لمواس وزملائها هي أن ترى اذا كان بالإمكان التأثير على سلوك الناس ليغيروا شعورهم بالسعادة على المدى القصير. لعمل ذلك، طلبوا من نصف المشاركين قراءة مقالة صحفية مفبركة تتناول موضوع أهمية السعادة بينما أُعطيت مقالة مشابهة للنصف الآخر عن فوائد “الحكم الجيد” دون أي إشارة للمشاعر.
طلب الفريق من المشاركين مشاهدة فيلم يدخل السرور على القلب عن الفوز الأوليمبي ثم سألوهم عن مشاعرهم بعدها.
ومرةً أخرى لاحظوا تأثيراً يدعو للسخرية فقد كان للفيلم تأثير أقل على مزاج الأشخاص الذين كانوا استعدوا لرغبة أكبر في السعادة مقارنةً مع الأشخاص الذين قرأوا المقالة المحايدة.
“سجل الامتنان”
وعليه يبدو أن القراءة عن السعادة قد رفعت من توقعات المشاركين حول الطريقة التي يجب أن يشعروا بها عندما يشاهدون شيئا يدعو للتفاؤل والأمل ولذا كانوا على الدوام يسألون كيف يشعرون. وعندما لم تصل مشاعرهم الواقعية لهذه المعايير أنهوا مشاهدة الفيلم وهم يشعرون بالإحباط بدلاً من السعادة.
ربما تكون قد شعرت على هذا النحو أثناء حدث كبير مثل زفاف أو “رحلة عمر” باهظة. فكلما رغبت أكثر في الاستمتاع بكل لحظة يصبح الأمر أقل ابتهاجاً بينما قد تكون تجربة رحلة غير متوقعة في مكان قريب تجربة أكثر ايجابيةً.
بحث مواس يظهر أن هذا قد ينطبق على أجزاء أخرى في الحياة. أيضاً الرغبة (أو السعي) في السعادة يمكن أن يزيد من الشعور بالوحدة والانفصام ربما لأنه يجعلك تركز على مشاعرك الذاتية بدلاً من تقدير الناس من حولك.
تضيف مواس:”هذا التركيز على الذات قد يجعلني أختلط مع الناس بشكل أقل وقد أحكم عليهم بصورة سلبية أكثر إذا ما تصورت أنهم يتلاعبون بسعادتي”. ولكن هذه التأثيرات لا تقف عند هذا الحد ففي وقتٍ سابق من العام الجاري، توصل سام ماغولي من جامعة تورونتو وايكيونغ كيم من جامعة روتجيرز الى طريقة أخرى لإثبات أن السعي عن وعي وراء السعادة قد يؤدي الى العكس من خلال جعلنا نشعر بأن الوقت يتسرب منا بسرعة.
ومثل مواس لجأ ماغليو وكيم إلى استخدام مجموعة من الدراسات الدقيقة لتحديد الأثر عرضي ومن بينها الاستبيانات والتدخلات الذاتية.
واحدة الدراسات التي أجريت طلب من المشاركين فيها إعداد قائمة بعشرة أشياء من شأنها أن تجعلهم سعداء في حياتهم (والتي قد تكون بسيطة مثل تخصيص ساعات قليلة كل أسبوع للعائلة).
لكن بدلاً من أن يؤدي ذلك إلى مشاعر متفائلة إزاء المستقبل، سبب لهم ضغطاً على وجه الخصوص بشأن الوقت المحدود لإنجاز كل تلك الأمور فكانوا أقل سعادة نتيجة لذلك. ولم يكن هذا ليحدث لو أنهم ببساطة أدرجوا الأشياء التي تجعلهم سعداء في تلك اللحظة. لقد كانت المشكلة تتمثل في رغبتهم بزيادة سعادتهم. يقول ماغليو:” المشكلة أن السعادة شيء ضبابي ومع تغيير الأهداف يكون من الصعب جداً أن تشعر بأنك وصلت إلى قمة السعادة وحتى إذا كنت قانعاً فإنك تصبح راغباً في إطالة أمد هذه المشاعر. والنتيجة هي أنك دائماً أمامك المزيد لتنجزه”.
ويرى ماغليو أيضاً أن “السعادة يمكن أن تُستمد من شيء مفرح يمكنني الاستمتاع به الآن إلى شيء مضني يتطلب منى العمل عليه مراراً وتكراراً”.
يذكرنا هذا بتوصيف إليزابيث غيلبرت في كتابها (طعام..صلاة..حب) :” مجهود جبار للابحار قدماً وللأبد في طريق السعادة كي تبقى طافياً في القمة”. هذا هو بالضبط نوع التفكير الذي يجعلنا في الواقع -بحسب دراسة ماغليو -أقل سعادةً.
هذه النتائج لا يجب ألا تؤخذ على نحو يثبط علاج مسائل الصحة العقلية الجدية مثل الاكتئاب. فعندما يتعلق الأمر بمشكلة طبية، يكون دائماً من الأفضل طلب المساعدة من المتخصصين. ويحاجج ماغليو بأن النتائج ليست سبباً لتجنب اتخاذ قرارات كبرى في الحياة من شأنها أن تحسن من رفاهيتنا مثل ترك شريك الحياة العدواني. فأحياناً نكون في حاجة للتركيز على سعادتنا المباشرة.
إذا لم تكن تواجه تحديات كبرى في الحياة، فان هذه التأثيرات قد تقود الى إعادة التفكير في سلوكياتنا وتصرفاتنا.
يشير ماغليو الى أن وسائل التواصل الاجتماعي تجعلنا على وجه الخصوص نهتم بحياة الآخرين التي يظهرونها لنا بشكلٍ منمق وجميل مما قد يزيد من رغبتنا في حياة أكثر سعادة واثارة.
كما أعرب عن اعتقاده بأننا سنكون أكثر سعادة فيما لو تجنبنا النظر للآخرين لوضع معايير لما قد يرقى لحياة جيدة وذات مغزى ويقول: ” اذا ما كنت تتذكر بشكل مستمر صديقك وهو يقضي إجازته في ذاك المكان الغريب أو في حفل عشاء راقي، أعتقد أن هذا سيذكرك بأن أناسا آخرين أكثر سعادة منك ويجعلك تبدأ العمل مجدداً على هدف السعادة” مضيفا:” أعتقد أن هذا النوع من السعادة في تنامي هذه الأيام”.
من جانبها تشير مواس الى الكثير من الأبحاث التي توصلت الى أن الناس الذين لديهم سلوك أكثر تقبلاً للمشاعر السلبية بدلاً من محاولة التصدي لها باستمرار كأعداء للرفاه يصبحون في الواقع أكثر رضاً بحياتهم على المدى البعيد.
وتشرح قائلةً:” عندما تسعى وراء السعادة قد تصبح أكثر إطلاقاً للأحكام وأقل تقبلاً للأشياء السلبية في حياتك. تقريباً توبخ نفسك على المشاعر التي لا تتماشى مع السعادة”. ولهذه الأسباب تنصح مواس بتبني أسلوب أكثر اتزاناً لمواجهة تقلبات الحياةبحيث يمكنك تقبل المشاعر السيئة والأحداث العابرة بدلاً من محاولة القضاء عليها بالكامل.
هذا كله لا يعني التخلي عن بعض الحيل الصغيرة مثل الاحتفاظ بـ “سجل الامتنان” وممارسة السلوك اللطيف مع الآخرين والتي تزيد من السعادة وخصوصاً اذا كانت تجعلك قانعاً بين الحين والآخر. ولكن لا تتوقع تحسناً كبيراً وفورياً في مزاجك وحاول ألا تسأل نفسك على الدوام كيف تشعر.
السعادة حقيقةً مثل حيوان بري وفي اللحظة التي تتوقف عن مطاردتها، قد تأتي طواعيةً من تلقاء نفسها.
المصدر: BBC