بقلم:حامد الكيلاني.
في بداية شهر نوفمبر الماضي شنّ تنظيم داعش هجوما عنيفا ومباغتا، على غير العادة، على قوات سوريا الديمقراطية المتواجدة بالقرب من مدينة هجين ضمن محيط محافظة دير الزور. الغريب في الهجوم هو انعدام الدعم الجوي الأميركي للقطعات الأرضية وغياب الرصد والمعلومات المسبقة، وكانت المبررات حينها صعوبة الأحوال الجوية وتشكل الضباب وغزارة الأمطار، رغم أن هذه الأعذار ليست وجيهة في ظل منظومة متقدمة ومتطوّرة يمتلكها سلاح الجو الأميركي.
هناك أكثر من علامة فارقة في العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والولايات المتحدة تدعم الإعلان الرسمي للرئيس دونالد ترامب عن بدء انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وكما يبدو من مضامينه فإن الإعلان استجاب، أولا، لرغبة الرئيس ترامب في تنفيذ وعوده الانتخابية بإعادة المقاتلين وإيقاف نزيف الأموال بما يتفق مع طموحاته الداخلية في ولاية ثانية.
ثانيا، الإعلان عن بدء انسحاب القوات الأميركية من سوريا يفتح المجال لتركيا بالتمدّد لملء الفراغ، مقابل التمدّد الإيراني بعد صمت أميركي على الضربات الجوية التركية لمنطقة سنجار، وما تسبب به ذلك الصمت من قلق في الأوساط السياسية للنظام في العراق، وبما يعنيه الانسحاب من تعجيل للتصريحات التركية بالتصعيد للمواجهة العسكرية مع قوات قسد، وأعنفها ما قاله وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، عن هدم الخنادق ودفن من يتموضع فيها، ولعل صفقة صواريخ “الباتريوت” الأميركية لتركيا كانت المفتاح البديل لفتح مرحلة جديدة من العلاقات، وتدشين مرحلة جديدة أيضا في الحرب على الإرهاب كما يراها ترامب.
روسيا رغم إصرارها المتكرر على عدم شرعية الوجود الأميركي في سوريا إلا إنها لا تثق بجدوى الانسحاب رغم تأييد الرئيس فلاديمير بوتين، لإدراكها أن السياسة تتقدم في مهامها على التواجد في قواعد عسكرية، فالبدائل حاضرة في القواعد الثابتة خارج سوريا أو القواعد المتحركة ونعني بها حاملات الطائرات الجاهزة للتعامل مع متطلبات الصراع على الأرض. لكن مع ذلك فإن روسيا متفهمة ومنسجمة مع الفكرة الأميركية بإعطاء الفرصة للحل في سوريا رغم مفارقة المصالح للثلاثي الروسي – الإيراني – التركي الراعي لمباحثات ومخرجات أستانة وسوتشي.
الولايات المتحدة أقلقت النظام الإيراني بتخلّيها عن حماية قوات سوريا الديمقراطية ما دفع بالرئيس الإيراني حسن روحاني للقيام بزيارة عاجلة لأنقرة انتهت بمؤتمر صحافي وبكلام عام عن الاتفاق على وحدة الأراضي السورية، وهي عبارة لم تكن تستدعي الحضور والتباحث لأنها عبارة مستهلكة في الاجتماعات والمباحثات المتعلقة بسوريا، ما يوحي بعواقب أكثر عمقاً من مجرد الارتياح والخلاص من التواجد الأميركي في قواعده الـ13 المنتشرة في شمال شرق سوريا لغاية قاعدة التنف.
في حالة اشتباك القوات التركية مع قوات قسد بما تمثّله في واجباتها العسكرية كخط صد لمنع قوات تنظيم الدولة، أو على الأقلّ للحدّ من تنقلها من وإلى داخل الحدود العراقية، فالبديل هو التواجد التركي بالتفاهم مع روسيا وإيران، إضافة إلى ما يتبلور من تهديدات قوات سوريا الديمقراطية بإطلاق سراح عناصر داعش المحتجزة لديهم والمقدّرة أعدادهم بـ7 آلاف مقاتل، بينهم ما يقترب من 1300 من غير السوريين مع بعض عوائلهم.
القوات الأميركية بدأت بالانسحاب إلى داخل الحدود العراقية في قاعدتي الأسد والحبانية على أمل الانتشار كذلك في أربيل بالقرب من القوات الخاصة الأميركية المجوقلة. ورغم مدة المئة يوم لإكمال الانسحاب، إلا إنها مدة طويلة قياسا إلى أعداد القوات الأميركية القليلة والتي لا تتجاوز 2000 مقاتل معظمهم بمهام تدريبية ولوجستية وكوادر هندسية لبناء القواعد الإستراتيجية ضمن ظروف حرب العصابات. طول مدة الانسحاب يمكن تفهمها ضمن سياقات تأمين انسحاب منظم للمعدّات والتجهيزات والأفراد ولترك مساحة للمتغيّرات السياسية ومراقبة تطوّرات الوضع في سوريا، وذلك هو مبعث القلق عند إيران أو اهتزاز الثقة عند روسيا.
الانسحاب الأميركي من سوريا ينظر له من جهة أخرى كزيادة عددية للقوّات الأميركية في العراق، عن اكتمال الانسحاب دون إعادة المقاتلين إلى الولايات المتحدة كما جاء في خطاب الرئيس دونالد ترامب، وذلك يمثّل بالنسبة إلى بعض الأحزاب أو الكتل البرلمانية الخاضعة تماما للمشروع الإيراني في العراق بمثابة مأزق لا يمكن تجاهله في ظل العقوبات وتجديدها على نظام الملالي، بل إن هؤلاء يطالبون بتشريع قانون في البرلمان لإخراج القوات الأميركية من العراق، بالتزامن مع خروجها من سوريا.
وهو ما يتصل بما حدث في العراق من تهليل واحتفالات بالذكرى الأولى لدحر تنظيم داعش في الموصل، وقبلها من تكريس للمعارك لأغراض سياسية محلية وإقليمية ودولية تزاحمت فيها الميليشيات المدعومة بفتوى المرجعية، وقانون برلماني لتحقيق تواجد شرعي حالها حال القوات النظامية وتزيد عليها في الصلاحيات، وبما يخصّص لها من أموال ورواتب عدا عن واجهاتها السياسية التي تتحكّم بالعملية السياسية.
إيران بمرشدها وحرسها الثوري تبنّت الانتصار على تنظيم داعش بخدمات الجنرال قاسم سليماني ومن معه. والولايات المتحدة فعلت ذات الشيء في تبنّيها الإعلان عن نهاية داعش، رغم أن التنظيم ورقة تتقاذفها الأهواء من كل الأطراف حتى في الانسحاب الأميركي من سوريا.
الولايات المتحدة ينتابها الإحساس بتمادي عملائها من أحزاب وتحالفات سياسية في العراق على خيانتها لصالح ميول تقليدية وعقائدية لنظام ولاية الفقيه خاصة في تشكيل الرئاسات الثلاث، وذلك ما ستثبته الأيام المقبلة في واقع أي خرق محتمل للحدود السورية العراقية من أفراد تنظيم داعش ومع أي اشتباك تحديدا مع ألوية الحشد الشعبي المكوّنة أساساً من ميليشيات برايات طائفية، عندها يمكن قراءة الصراع بين قوى التطرف بوجهيْ عملة الإرهاب سواء من تنظيم داعش أو من تنظيم الدولة الإيرانية، وسنرى كيف ستجري حرب الوجود أو التخادمات التي قدّمت لنا نماذجها السابقة في الموصل والبصرة.
تبني مبدأ الأسوأ هو إعادة منطقية لتدوير بضاعة الإرهاب واحتلال النواحي والأقضية والمدن في العراق. الاحتمالات تخضع لتهويل بطولة الميليشيات والحديث عن حكمة المرشد خامنئي والشخصيات الموثوق بها إيرانياً في العراق لتسهيل تبذير ميزانية الدولة في خدمة تخفيف أثر العقوبات والتنصّل من تقديم الخدمات أو البدء بإعمار المدن المدمرة.
الميليشيات الإيرانية في العراق صارت دولة، والدولة صارت تقاتل من أجل الإبقاء على الحشد الشعبي، أي على فرع الحرس الثوري في العراق، وكمية الإشادة بالمرجعية المذهبية بتوقيتها الحالي توحي بما يصدر عن مقاعد الميليشيات في برلمان العراق باعتبارها، أي المرجعية، هي التي هزمت قوات الاحتلال الأميركي بدعمها أبطال المقاومة، والمقصود هنا الحشد الشعبي، رغم إن الفتوى صدرت في أعقاب احتلال داعش للموصل، أي في منتصف سنة 2014، بما يهيئ الأذهان إلى مستجدات غاية في الخطورة قد لا نتفاجأ معها بإعلان التعبئة العامة عند أي طارئ يتعلق بالعلاقات الدولية أو الأميركية مع إيران على أرض العراق، ولا يعني بالضرورة الاصطدام المسلّح لأن من ينوب من حرسها الثوري في العراق قابل للتشكيل أو التفكيك، وتلك بعض رهانات الأزمة والحل.
النظام في العراق أعلن قبل أيام عن هجمات وطلعات جوية داخل الأراضي السورية القريبة من الحدود العراقية ومنها منطقة سوسة التي يتواجد فيها مقاتلي تنظيم الدولة، والقصد أن داعش ومقاتليه بعد الآن وتحديداً بعد الانسحاب الأميركي من سوريا لم يعودوا بحاجة إلى طرق ملتوية وزعامات بحجم رئيس الوزراء في عراق 2014، أو قيادات من الصف الأول لتمرير نسخة ثانية من كارثة احتلال الموصل من جهة الغرب، أو كارثة احتلال البصرة من جهة الشرق.
المصدر: العرب اللندنية.