بقلم:مشرق عباس.
جرفت السيول اخيراً مخيمات النازحين والقرى الخربة، جارت على ماتبقى من انسانيتها التي كانت عبثت بها المزايدات والمغامرات السياسية، وقست على حياة اطفالها وشيوخها ونسائها، اؤلئك الذين مازالت تفتتح باسمهم كل يوم بورصة بيع وشراء المناصب والمكاسب، وتغلق على وقع مأساتهم حرب الاتهامات والمواقف مدفوعة الثمن.
عانى العراق كله من نتائج ارتزاق اطراف سياسية مختلفة ومن تكالب احزابه على الاساءة الى اسمه، ورخص بعض الواجهات الدينية والعشائرية المزيفة التي تصدرت مشاهده الدامية، لكن البلاء الذي اصاب المدن السنية وسكانها الفقراء الذين تحولوا الى وقود لمعارك سياسية ممتدة يجهلون حتى معناها، واسبابها، لايشبه بلاء آخر.
فتح الاطفال اعينهم على تهمة البعث تلاحق مجتمعاً كاملاً، لاحقوا آباءهم الى طوابير البحث عن منفذ من ضغط الاتهامات ولقمة عيش والسجون، ثم الى جيوش الغرباء المدججين بالكراهية تتقاسم مضافات عشائر ومجالس نخب سياسية وتجار دفعت بهم المصادفات والفراغ السياسي ومآسي ابناء مدنهم الى الواجهة.. اصبحوا مراهقين عندما صفقوا لزعماء جدد وسابقين يتحدثون للمرة الاولى بلغة “سنية” خالصة، استهوتهم لحظة البوح السني الشاملة، التي فشل حكام بغداد بفهمها وربما فهمها بعضهم واصر على تمكين الخراب، حتى استحالت منصات التظاهر الى ساحة حرب طاحنة ومؤلمة، وتحولت المطالب حول “المظلومية السنية” الى خريطة دولة افتراضية جديدة يحكمها متطرفون تجمعوا من شتات الارض في قلب العراق التاريخي، يستبيحون ذاكرته، ويطيحون بمعاني التعايش التي تأسس عليها.
لحظة قرر “داعش” إنهاء العراق، هي الحقيقة الموجعة لفتية فهموا للمرة الاولى جوهر زعامات عشائرية ودينية وسياسية ركبت كل الامواج الممكنة لضمان مصالحها، وغامرت بارواح الناس واموالهم ومدنهم رافعة كل شعار متاح، فيما كانت تفاوض في الغرف السرية، وتعرض بضاعتها في سوق المصالح الاقليمية المفتوح.
في محنة التهجير، ووحشة خيم النزوح، وذلها، وهوانها، وعلى اطلال خرائب المدن التي دمرتها الحرب، وامام الاف القصص عن العائلات التي تدمرت، والكرامة التي استبيحت، والسنوات التي اهدرت، والانتخابات التي اصبح زعماء النكسات مختصين في تزويرها، ولد وعي جيل جديد مختلف تماماً، عن ذلك الذي كانت تهز مشاعره خطبة تحريضية في مسجد، او نخوة مدعية في مضيف عشيرة، او بيان مدلس من حزب.
لايمكن قراءة مشهد العراق المقبل، من دون فهم جيل المدن السنية الجديد، اؤلئك الذين يراقبون بصبر وربما بنفاذ صبر، صلافة ماتبقى من حرس الصفقات السابقة، يتصارعون على مناصب ومكاسب بغداد، يغيرون جلودهم كل يوم، ويحاولون اثبات حنكة سياسية مثيرة للسخرية عبر التنقل بين الخنادق.
يتسمر الشاب الذي لم يفق بعد من ترنح الضربات التي وجهت بلا ذنب الى حياته طوال السنوات السابقة، امام سياسي يريد ان يشرح له سبب ارتمائه في احضان من كان يشيطنهم امس ويبالغ في تسميم العقول عن دوافعهم ومذهبهم وانتمائهم: “انها البراغماتية ياصديقي.. ساقودك وعائلتك في المخيمات والخرائب غدا، بعد ان شاركت بعنجهية وانتهازية في الدفع بكم اليها امس!”. سيول الموصل والانبار وديالى، تكشف صدأ حكامها وممثليها والمتحدثين باسم همومها، تماما كما كشف جفاف البصرة صدأ احزاب ساقت خيرة شبابها الى المجازر وعجزت عن توفير مقعد دراسة لم تنهشه السرقات المعلنة، وتحت رماد المنازل المهدمة والكرامة المهدرة، هناك جمر يتقد بلا هوادة في قلوب جيل مهيب من الشباب في مدن الجنوب، جمر في قلوب شباب كردستان، وجمر في مدن “الغربية” لايمكن اطفاء جذوته باستعادة منولوج الدفاع عن المذهب او القومية، لا بالخطب الرنانة، ولا باستدعاء نصرة الغرباء، ولا بصنع المزيد من وسائل الاعلام لترويج خطاب مدلس وقادة مزيفين.
الزمن القادم ليس هيناً في العراق، والحال لاينبئ بتعلم المنظومات السياسية من سيرة الاحتجاج الشعبي المتواصل، وشباب الانبار سيحملون الشعارات نفسها التي حملها شباب البصرة، منددين بالفساد الحزبي والسياسي، ومطالبين بدولة تليق بتضحياتهم، وبالسنوات التي استبيحت من اعمارهم الغضة، دولة تحمي احلامهم، وتصون لحمهم الحي، وتضمن المستقبل لابنائهم.. دولة لاتشبه سيرك تقاسم المنافع وتهافت المواقف المنعقد في بغداد هذه الايام.
المصدر:الحياة اللندنية.